دراسة :د.محمد سيد عبد التواب
يمكننا القول أننا لن نعثر فى تاريحنا النصي على بنية محالية لهذه البنية التي قدمها أشرف نصر فى (حرية دوت كوم)
إذ يقدم مجموعة من رواد الانترنت الذين ينضمون إلى منتدى "حرية دوت كوم"يفتح لكم "آفاق الحرية الحقيقية "اكتب ما تشاء وشارك فى أقسامنا الرئيسية ، وابتكر أقساما فرعية فى أي موضوع يشغلك مبدؤنا:حطم قيودك وامتلك حريتك"1
يحكى الراوي قصة شريف مع ذلك المنتدى الذى يفتح للجميع "آفاق الحرية الحقيقية"أي الحرية الجنسية ،وهى فى الواقع حرية افتراضية -انحيازا إلى الحلم،ورفضا للواقع حسب إشارة"د.وائل غالي"وهو انحياز وارد على كل شيء حتى ملامح الوجوه وأنماط السلوك وجرس الكلمات وتراكيب العبارات تطور الحدث ،فضلا عن الإيقاع فائق السرعة لحركة السرد.
لم يجهد "أشرف نصر"نصه إذن فى تقديم المسوغات لأنه اشتغل على واقعين افتراضي وحقيقي ،انهما واقعان يقولان كل شيء ويتماسان مع الاسئلة الاشكالية كلها،فى السياسة والدين والجنس وإذا ما كانت مهمة الفن التى أقرها النقاد تستثني الإجابة عن الأسئلة فإن استثنائية هذه الرواية تكمن فى انها تجيب عن أسئلة صعبة عبر لغة مباشرة واضحة ،ومنهمكة أحيانا ،عبر النكتة ،التى هى بنية ،واستعارية مكثفة ومضادة للواقع.
إنها إذن رواية ما بعد حداثية حيث تعاني الشخصيات الروائية بل و"نحن"أيضا من اهتزاز المعنى ،اضطراب القيمة ،وحسب بودريار "واقع فصامي"حيث الأجساد والأرواح قد طغى عليها حضور الدعاية والتليفزيون وأصبحت ترفض الاقتراب من الكائنات الحقيقية ،فالزائف بات يحل الحقيقي ،وأصبحنا من مستهلكي نسخ النسخ وصور الصور ،على الرواية ما بعد الحداثية إذن أن تجسد قيم هذه المجتمعات الخارجة عن الخيال المفهومي ،فمجتمع ما بعد الحداثة نسبة إلى ليبتوفسكي "هو مجتمع اللا مبالاة الجماهيرية ،ومجتمع الشعور بالانسحاق حيث أصبح التجدد عاديا إنه مجتمع الماكدونالدية على حد تعبير "ريتزر"لقد انهت الرواية ما بعد الحداثية نقاء اللغة كليا ،ولم تعد تحفل بالكتابة الشعرية والبلاغة الكبيرة المنضبطة ،واحلت محلها اللهجات العامية ،والكلمات الأجنبية والواقع اللساني المجزء والمنفصل والمزاح والنكتة والسخرية.
وفى هذه الرواية يدخل "أشرف نصر" عالما جديدا فى الأدب العربي وجدير بالذكر هنا الإشارة إلى رواية إبراهيم عبد المجيد"فى كل أسبوع يوم جمعة"الصادر عن الدار اللبنانية للنشر سنة 2009 والتي أشار كثير من النقاد إلى أنها الرواية العربية التى أسست لرواية ما بعد الحداثة وأتصور سبق"أشرف نصر "فى روايته فقد صدرت سنة 2008،وأغلب الظن أن إبراهيم عبد المجيد قد أطلع على هذه الرواية حيث يبدو التقارب فى الخطوط العامة.
تبدأ الرواية بشخصية "شريف"التى نظن للوهلة الأولى أنها الشخصية الرئيسية ولكنها لم تكن كذلك "فشريف"هذا الشاب الذى يستيقظ على خلافات بين والديه حول الفلوس والمصاريف يبدو فى حالة لا مبالاة لما يدور حوله وبدأ فى التذكر عندما جلس أمام الكومبيوتر وبدأ بالدخول فى عالمه.
الرواية بالأساس رواية شخصيات تشعر بالوحدة والغربة حتى فى ظل عوالمها الحياتية المزدحمة يعانون من ازدواجية وهوة كبيرة بين الواقع والحلم أو الواقع الافتراضي لذا كانت المنتديات والشات ومواقع الانترنت المختلفة هى الأنفاق السرية التى يجدون فيها فرارا من واقع لا يحتملون العيش فيه فالرواية لا تعتمد على بطل محدد،ولكن البطل الحقيقي هو القارئ عندما يتلبسه النص بكل ما فيه من معان
لقد استخدم "أشرف نصر"تقنية الحكي داخل الحكي لتقديم هذا الواقع الافتراضي وواقع اللاواقع فحكايات الأحداث تنتقل من الواقع الخارجي والواقع الداخلي إلى واقع وهمي افتراضي داخل أحد المنتديات،وجدير بالذكر أن هذه التقنية "الحكي داخل الحكي"مثل ألف ليلة وليلة وحقيقة الأمر أن هذه الرواية صعبة فى كتابتها وبنائها ورصد تفاصيل شخصياتها وعلاقتهم ببعضهم البعض ،لكن الكاتب ظل طوال الوقت محافظا على سير الأحداث وتطور الشخصيات فوراء كل شخصية حكاية ،ووراء كل شخصية سبب مختلف تماما للانضمام إلى الموقع والمفارقة الدالة أن كل شخصية تقدم نفسها فى المنتدى باسم مختلف فهذه"ليلى"التى تقدم نفسها باسم "مروة"و"مجيد""مهاجر"و"سهيل"
red s
وخليل"السوهاجي"وكنا نتوقع أن الشخصيات داخل منتدى "حرية دوت كوم"يمارسون حريتهم فى كل شيء وهذا لم يحدث قط فالحرية لا يمكن أن تأتي هكذا "بضغطة زر"انها ثقافة وتربية وممارسة حياتية فالضخصية التى جبلت على الكبت والاضطهاد وتربت على كبت مشاعرها وتصدير صورة مثالية لانفسها حيث يتحول الانسان إلى كائن آلي يفقد روحه ومع هذا يتوهم ذاته كائنا حرا ممارسا لارادته هو، فيتم تزييف المشاعر والعقل والارادة ..فها هي رغد امرأة مطلقة ولها ابن شاب تدخل إلى عالم المنتدى من باب الخوف على ابنها من هذا العالم الغامض ومحاولة فهم ما يدور فى أذهان هؤلاء الشباب فإذا بها تقع وتتحول إلى مشاركة نشطة ولكنها تخاف أن تعلن عن نفسها وتبدأ فى المشاركة بأفكار مختلفة تبعد بها الشباب عن الأفلام الجنسية التى يرغبون فيها على المنتدى ولكنها تتسلل فى غياب ابنها لتفتح هذه الأفلام لتنفس عن نفسها ورغباتها التى دفنتها تحت رداء من ايثار الابن والاكتفاء بتربيته ورفض الارتباط بآخرين من أجله
كذلك سهيل اللبناني الذي يحب مريم الفلسطينية التى تتبنى مبادئ تحرير الأرض وترفض مبدأ التعايش ولكن لأنه يحبها يحاول أن يتبنى وجهة نظرها التى لا يؤمن بها.
ويعمل "أشرف نصر"فى هذا النص على نقل واقع افتراضي متطرف فى السخرية والضحك والشجن والرغبات المحمومة بالجنس والقتل والفرح والسلام
واقع افتراضي يشبه الأحلام تارة والكوابيس تارة أخرى وثم يحققها على أرض الواقع.
ويبدو سؤال الرواية الحقيقي جول تلك الحرية المزعومة والتى لا يمكن أن توهب أو تقدم كهبة أو منحة إنها ممارسة وتربية وثقافة مجتمعية عامة
ويبدو ما تعيشه مصر الآن بعد ثورة يناير أكبر دليل على أن مجتمعاتنا العربية ظلت لعقود تعيش تحت وطأة الكبت والقهر بداية من المنزل والمدرسة والشارع والسلطة
وعندما نلنا بعض هذه الحرية لم نفهم ما المقصود بمعنى الحرية
ونكتشف فى نهاية رواية حرية دوت كوم أننا لم نمارسها يوما ما.
***
هامش للدراسة:
تعريف بالروائي
وهامش 1 ص 15 من الرواية الصادرة عن دار شرقيات 2008
هوامش حول الدراسة:
قدمت الدراسة فى مؤتمر بعنوان(تجليات ثورة 25 يناير فى الإبداع الثقافي )وعقد بالجيزة أبريل 2012
****
أهم هامش:
ألف شكر للمبدع والباحث السينمائي /نادر محمد الذى عثر على الدراسة وأحضرها لى بدأبه المعروف وذلك فى فبراير 2013