May 7, 2015

رصاص فوق برودواي


رصاص فوق برودواي ..
الفنانين كهدف لرصاصات وودي آلان المبهجة ! 
أشرف نصر  
***
 Bullets Over Broadway 
اخراج : وودي آلان
 تأليف: وودي آلان -دوجلاس ماكجرث
بطولة: جون كيوزاك-ديان ويست
 انتاج: امريكي 1995  
كرة الثلج : 
يبدأ وودي الآن فيلم: رصاص فوق برودواي، بحوار قصير، مشهد واحد، وقرار يبدو بسيطا، فيتغير على أثر القبول تغير عالم بطله ، ديفيد (يؤديه الممثل جون كوزاك) كاتب مسرحي شاب، اخيرا وافق المنتج تقديم مسرحية له، والنقاش والتفصيلة الصغيرة، هو أن الممول يريد دورا لصديقته فى المسرحية، نحن فى نيويورك العشرينات ومسارح برودواي تعنى الشهرة، وإنتاج مسرحية للفنان ديفيد سينقله من عالم التنظير فى المقاهي، وجلسات المثقفين الناقمين المفلسفين لكل شيء إلى قلب  "سوق الإنتاج"،بنعيمه وجحيمه، (الطريف حقا أن "الهموم الانسانية"متشابهه لدرجة مدهشة، الانتقال -مع الفارق طبعا- وكأننا سنحضر أحد مثقفي وسط البلد "العاطلين"وسيتم إنتاج عمل له سيعرض فى رمضان مثلا ) ،، جلسات وحياة ديفيد كانت واضحة وسهلة مع حبيبته ورفاق الجلسات، حيث اللغة المشتركة، والنظرة الأحادية للعالم،وإطلاق الجمل" الفخمة "المعقدة كأنها اكتشافات فريدة،ويختلط طبعا الفنان بالمدعي فى سحابات الدخان، ولأنها"فرصة العمر"  للفنان ديفيد، يقبل بالطبع، ويقدم التنازل الصغير، لكنها تحولت ل"درس العمر" فتنازل صغير يعني كل شيء! فالفتاة صديقة الممول فتاة سيئة جدا فى التمثيل، وكل مؤهلاتها عشيقها الممول، والذي هو -ببساطة وودي آلان فى حبكاته المدهشة-"نك" رجل عصابات كبير، وزعيم مافيا، حياته اليومية جرائم لا تتوقف، الكوميديا تتفجر مع كل تفصيلة جديدة، وفى قلب كل مشهد، منتقلا بين الشخصيات ودوافعها ليدفع الأحداث للتصاعد وبشكل سلس، معتمدا على تطور ، وكرة الثلج التي تتدحرج تكبر باستمرار، وتزيد المفارقات وتتعدد مستوياتها، فلك تخيل فرقة مسرحية من الممثلة الفاشلة ، ونجمة غربت عنها الأضواء هي هيلين(قامت بالدور ديان ويست)، ونجم نهم للطعام، وشابة تبدو كمهووسة بكلبها ونكاتها .التي لا تضحك غيرها، ويقودهم "بطلنا الكاتب المخرج" ديفيد، الذي يبدو كأنه دخل بالثياب الرسمية لحضور الأوبرا فوجد نفسه فى قلب السيرك. 
خبرة الكتب فى مواجهة خبرة الحياة: 
المراوغ الجميل وودي آلان يخدعنا خدعة جديدة، وكسحره الخدع يوجه أنظارنا لشخصياته فى الفرقة المسرحية، وحتى رغم خط زعيم المافيا، وعالم الجرائم، يبدو لنا الصورة الرئيسية جو المسرحية والفرقة بشخوصها، ثم يخرج الساحر من جيبه أو من أقصي جوانب الصورة شخصية فارقة يسربها فى الحكاية، "تشيتش" (يؤديه الممثل شاز بالمينتري) بودي جارد يعينه رجل العصابات "نك" للفتاة عشيقته، وكل دوره أن يحضر العرض، كي لا يضايقها أحد،،ولأنه "تشيتش" يحضر العرض المسرحي كل ليلة، يلقى بملاحظة صغيرة ومقترحا تعديلا لحوارها، لن تصدق الأثر الذي حدث، يبدأ البودي جارد فى الاقتراحات والتعديل، حتى يتحول تدريجيا "كاتب شبح" أي أنه سيعدل النص المسرحي تماما دون أن يعلم أحد، ولتظهر  لنا هشاشة خبرة ديفيد المكتسبة من الكتب، فى مواجهة خبرات حياتية لا نهاية لها عند البودي جارد تشيتش ، الذي يقتل يعلم من يكتب، بل ويدخل لعبة الفن، فيبدأ التعامل على أنها مسرحيته، وعلى سبيل المجاملة فقط يقول لديفيد:مسرحيتنا. وبنيما ديفيد يتحول لخاتما فى اصبع النجمة الشهيرة"هيلين" التى تتحول ل"وحش" والوصف مبالغة، للبحث عن وصف لها وهي تلتهم روح وعقل ديفيد وجسد ديفيد، ليس لسواد عيونه، وهي التي ارتمى تحت قدميها من لم تعد تتذكر حتى اسماءهم، ولكن لهدف واحد، مجدها وعودة الأضواء لها عبر زيادة دورها و"ابرازه" ، فيندمج ديفيد وينسى حبيبته، وكأنه أخيرا دخل التجربة الحياتية ، تاركا البودي جارد يندمج فى لعبة الفن! 
سخرية نعم، سوداوية لا: 
وودي آلان لم يرحم نفسه من سخريته بل على العكس، انغمس فى تشريحها، وتشريح الأسرة، مجتمعات اليهود وعاداتهم،كأنه حين فعلها تحرر من أي موانع تمنعه من السخرية من العالم أجمع، حين تقع الفريسة (كأهل الفن فى فيلمنا) ينطلق كنهر جارف، يسخر من الطباع، التصرفات، التحولات، النهايات والمصائر، فديفيد هنا ليس بريئا ملائكيا، بل ينغمس رويدا رويدا فى حب هيلين، ويدخن، ويترك فنه لتعديلات تشيتش، وحتى مثله الأعلى فى جلسات المثقفين، نكتشف أنه يقدم المبررات والتنظير "ليقيم علاقة جنسية" مع حبيبة ديفيد، وكأن الجميع يمثل، وينتظر الفرص للانغماس فى التجارب، كل تلك السخرية والمفارقات، لا يقدمها وودي آلان بحكم أخلاقي طبعا، ولا بمرارة تراجيدية حتى، بل بابتسامات وضحكات تتعالي تدريجيا ، والسؤال الذي يبدو بسيطا ومتوقعا، هو السؤال المحوري فى حياة ديفيد، حين يسأل حبيبته ، هل تحب الفنان فيه أم الإنسان؟ وكعادته ينهي فيلمنا كالكثير من أفلامه بنهاية ناعمة رومانسية سعيدة، منتصرا لقصة الحب ولو على حساب الفن. يؤمن بالحب ولكن ليس على طريقة الكلاشيهات العاطفية، بل بالحب الذي مر بالعواصف، واستقر بعد التأرجح فى صخب الشهرة، الجريمة، الخيانة وتجارب الآخرين. هذه البساطة والسلاسة ليست فى حكاية وسيناريو الفيلم/أفلام وودي آلان فقط، بل فى الإخراج السهل الممتنع، والتمثيل الكوميدي الذي لا يهدف لانتزاع الضحك الخالي من التفكير، بل الأداء البسيط الهادف لرسم البسمات الصغيرة والتفكير فى المفارقات الحياتية، أو فلنسميها :هذه الكوميديا التي نعيشها ويسمونها الحياة! كل ذلك يأتي بمعا ومترابطا لأنها طريقة تفكير بالأساس، ولن نجد غالبا مشاهد صعبة تكنيكيا أو عربات تتحطم وطائرات تسقط، الخ العاب هوليود، إنما هو يحب ملاصقة الكاميرا لشخوصه، وموضوعه هو الأساس، وارتباط المشاهد بأبطاله هو الهدف دائما، ويتعامل مع الامتاع كجزء رئيس فى الفن، فحتى وهو يتناول مثلا مشاهد القتل، وعالم المافيا، يطلق القاتل الرصاص، تسقط الضحية، لا نرى الدماء والجثث،
 ينقلنا فورا للقتلة ، الذين يفكرون فورا -وببساطة -:
 هيا لنأكل !  
***
نشر بمجلة أبيض وأسود
العدد 40 أبريل 2015