تاريخ المكان وتحولاته*
قراءة فى رواية: من حكايات سنورسد.محمد مصطفى حسانين
فى رواية أشرف نصر(من حكايات سنورس) يعمل المكان الروائي بوصفه عنصرا أساسيا فى تشكيل وعى الشخصيات ومنبعا لا ينضب لتاريخهم وأفكارهم وتحولاتها مع مرور الزمن ومن ناحية أخرى فعلى الرغم من أن المكان الرئيسي يفصح عن الغوص فى سرد ممعن فى محليته فإن تلك المحلية أو الإقليمية تتوارى حين نرى المكان وتاريخه مشدودا عبر الزمن إلى تحولات ترمز إلى تحولات الوطن نفسه ولكن ذلك لا ينفى خصوصية الحوادث التي تجرى فيه وتصبغ شخصياته بسمت خاص.
"حكايات سنورس لا تنتهي" هكذا قالت العمة ياسمين فى بداية الحكاية الأخيرة المعنونة ب"البيت" وبين تلك النهاية وبداية الرواية تتعدد الحكايات وتتوالى فالرواية مكونة من سبع حكايات تبدو لأول وهلة وكأنها حكايات مستقلة تقوم على لون من الانفصال الخاص الذي يكون دلالتها فلا تفتقد كل حكاية إلى حبكة خاصة تصنع تميزها داخل الرواية،وكأننا أمام عدد من القصص القصيرة المتجاورة أو سرد يقوم على
"حلقة القصة القصيرة
Short Story Cycle
التي يعدل فيها القارئ فهمه لكل قصة فى ظل القصص الأخرى" #1
ولكن هذا الافتراض يختفي فى ظل تلاحم الحكايات وتداخلها وقيامها على البناء التراصفي المتصل بين المجموع ومن هنا يبدو أسلوب تقسيم الرواية إلى مجموعةمن الحكايات –التي تجمع بين الاستقلال والتداخل مع غيرها فى آن- أشبه بتكنيك تقسيم الرواية إلى أقسام وفصول فكل حكاية تعقد علاقة دلالية وتكاملية مع التالية وهكذا إلى نهاية الرواية.
- بطولة المكان/تاريخ المكان
ويبدو الخط الناظم لهذه الحكايات قائما على التداخل بين سيرة المكان وسيرة الشخصيات فنجد أن مدينة سنورس هي القطب المكاني الذي يشد مجموعة الحكايات فى حين يلعب هذا المكان دورا محوريا فى نسج السرد من خلال الاعتماد على خط سردي دقيق هو سرد تحولات أسرة (رفاعي الصعيدي) وأبنائه وأحفاده فى هذا الحيز الجغرافي فتبدو الرواية وكأنها على صعيد آخر تنتمي إلى (روايات الأجيال) ولكن بأسلوب مصغر وسرد مكثف ومن هنا تبدو بطولة المكان الذي يعمل بوصفه محيطا ومنطلقا لكافة الحكايات.
وتتكون سردية المكان من خلال الترابط بين السرد الإطاري والحكايات الداخلية فى الرواية فهناك علاقة وثيقة بين السرد الإطاري الذي يقوم به المكان العام الذي يتمثل فى (مدينة سنورس) ومجموعة الحكايات المكونة لدلالته فالمكان الإطاري لم يأتنا إلا عبر تجزئته إلى أماكن معينة فى المدينة دالا على محاصرة المدينة فى مؤسساتها وهكذا نجد الرواية موزعة إلى حكايات : المحطة،والشارع:شارع سعد زغلول(مكان وجود الكنيسة)،والمدرسة والسينما وقسم الشرطة وبيت الثقافة ،والبيت(بيت العائلة).
وفى حكايات هذه الأماكن تبتعد الرواية عن رصد الحدود الجغرافية للمكان ومكوناته من محتويات،فلا تقوم على وصفه أو الميل إلى تجسيد أبعاده بل تصبح هذه الأماكن وحكاياتها أكثر اقترابا من تعيينها بوصفها مؤسسات تعبر عن تميثلات سيسوثقافة يكشف السرد الروائي عن تحولاتها وانعكاساتها عبر المكان والأفراد فكل الأماكن ترتبط بقصة شخصية أو فرد من أفراد عائلة(رفاعي الصعيدي) ،هكذا ترتبط المحطة برفاعي نفسه ،أما شارع سعد زغلول فيرتبط بالكنيسة وصهر رفاعي الحارس(عبد المقصود) والمدرسة تدور حكايتها حول صلاح رفاعي كما تدور حكاية السينما بسلوى صلاح رفاعي وأمها سعاد وسيد ورجب رفاعي ،وفى قسم الشرطة نجد الصراع بين حسام رجب رفاعي وابن أخته ناصر مع الرائد فتحي الجزار ،فى حين يعد قصر الثقافة مسرحا لحكاية عبد الرحمن حمدي رفاعي ،ويأتي ارتباط أفراد العائلة بهذه الأماكن معبرا عن تحولات المكان تاريخيا من الجد إلى الأبناء والأحفاد ،فسيرته مرتبطة بهم.
- الكل مروا من هنا: التحول السياسي والاجتماعي
تحولات المكان تنطبع على الشخصيات فتقدم عمليات تغيرهم عبر أحداث مهمة مر بها المكان ،فتبدو المدينة بوصفها منطقة عبور تمر عبره لا الشخصيات السياسية والدينية فقط بل ما تمثله من حركات وتيارات سياسية لم تكن لتغير مدينة سنورس فقط بل الوطن كله ،وكأن الرواية تحاول موقعة المدينة على خارطة الوطن عبر التمثيلات السياسية.
تبدأ الرواية من حدث محوري فى تاريخ المدينة ببناء محطة القطار حيث تبدأ عمليات ربطها بكافة المحافظات وكأن المدينة تبدأ مع بناء المحطة فى تكوين هويتها وهوية أهلها ،فاللوحة المكتوب عليها اسم المدينة تحقق لأهلها وجودا وانتماء للمكان ف"كلما مر أحد من أهل البلدة أحس بالشغف لتلمس تلك الحروف السوداء الكبيرة حتى أن مصور البلدة حرص على التقاط الصور للناس بجانب تلك اللوحة"#2
وأول مشهد فى الرواية يمثل البؤرة المركزية لبداية صوغ التمثيلات السياسية التي تتصادى معها الرواية ،فأول من دخلها من تيارات يتمثل فى الحركات الدينية والجماعات السياسية ،وكأن دخول المدينة فتحا جديدا لها ،" لقد دخل الاسلام أرضا جديدة هكذا هتف الشيخ حسن البنا بكل قوته..والقطار يبدأ فى التباطؤ من أجل الوصول"#3
ولم تكن زيارة الشيخ للمدينة سوى أول زيارة له من أجل الدعوة لفكر الجماعة خارج منشئها الأول فى الإسماعيلية ، وكأن المدينة فى حداثة تكوينها الجديد ترتبط على نحو متزامن بتاريخ الجماعة الناشئة والصاعدة على مسرح الأحداث "فقد قرر الشيخ بعد أن قام بتأسيس شعبة الإخوان المسلمين بالإسماعيلية بأن يبدأ رحلات السفر للصعيد لكنه غير رأيه فى آخر لحظة حين عرف أن القطار سيدخل لأول مرة بلدة تسمى سنورس ..فاعتبر الشيخ أن هذا فأل حسن حيث ستكون رحلة القطار الأولى هي نفسها رحلته الأولى" #4
ومع نزول الشيخ إلى المدينة نرى بداية دعوته للناس فى الشوارع والمحلات ولكنه فى النهاية يغادر المدينة بعد أن كون مجموعة من الأتباع والمريدين ،وظل يتواصل معهم ،وتأتي عملية قتله مؤشرا داخل الرواية لتحول جديد مع مار آخر على المدينة يحمل معه فكر جماعة أخر مولدة من الأولى ،لقد وقف رفاعي الصعيدي منتظرا عودة الشيخ حسن مرة ثانية ولكن الآتي هذه المرة كان شخصا آخر
"فحينما نزل الرجل كانت ملامحه مختلفة بل كان ضريرا يسحبه أحد الرجال ..وحتى الأتباع كأنهم ليسوا من أهل البلدة بذقونهم الكثيفة وقلوبهم القاسية حتى أنهم منعوا رفاعي من أن يسأل الرجل عن الشيخ حسن وسمعهم رفاعي يهتفون بضراوة:إسلامية..إسلامية .وسمع أحدهم يهمس مشيرا للشيخ الضرير ،الدكتور عمر عبد الرحمن"#5
وينعكس فكرة الجماعة الجديدة على المكان عبر العديد من مظاهر العنف التي بدأت تشهدها المدينة،ولم تكن عائلة(رفاعي) بمنأى عنها ،فقد انخرط حسام حفيده فيها ،ودارت بينه وبين الرائد فتحي الجزار العديد من المعارك بين كر وفر، وانتهت بشنق حسام للجزار في قسم الشرطة بعد أن ظل مصرا على الانتقام لتعذيبه ،ونال حسان المصير نفسه بعد أن حاصرت قوات الأمن بيته وألجأته إلى قسم الشرطة فارا فقتلته عجلات السيارات وأرجل الخيول المهرولة ،وهو المصير نفسه الذي دفعه ناصر ابن أخته الذي تزوج ابنة نبيل وليم المسيحي بناء على فتوى الدكتور عمر فاعتقلته الشرطة واختفي ،فمات والده عبد المقصود حارس الكنيسة كمدا عليه.
بل لم يكن بيت العائلة نفسه بمنأى عن القتل الرمزي بسبب سيادة أجواء العنف فقد انتهي إلى الهدم والتخريب أثناء القبض على حسام فدفعت أسرته الثمن من خلال انتقالها إلى بيت آخر.
وإلى جانب تحولات الجماعات الإسلامية وانعكاساتها على المدينة نجد انعكاس التحولات السياسية أيضا ،فالرواية تدور تاريخيا فى الفترة من نهاية الملكية وحتى مقتل الرئيس السادات ،فقد تعلق صلاح رفاعي بالمد الناصري منذ أن افتتح عبد الناصر أول مدرسة ثانوية في البلدة ومنذ قيام الثورة وزاد الوله فتحول صلاح إلى مجنون يجوب بيوت سنورس ويدقها بابا بابا معلنا عن قيام حركة الضباط ،ومع مرور الوقت تحول صلاح الغير متعلم إلى رجالها فقد عينه الرئيس فى المدرسة دون مؤهلات فقد كان يكفى هذا الولاء للثورة وفى ظل هذا الوضع نجد صلاح قد حول المدرسة إلى إقطاعية خاصة به ينام داخلها ويزرع حديقتها لنفسه.
لقد مرت على المدينة العديد من الأفكار والشخصيات وأهل المحافظات الأخرى ففي أثناء العدوان تحولت المدرسة إلى مسكن للمهجرين من محافظات القناة، بل بيت الثقافة حضر أول اجتماع فيه الدكتور طه حسين ،وهكذا أصبح كل مكان فى المدينة لهتاريخه الخاص ويرتبط بالتمثيلات السياسية والاجتماعية العامة للوطن.
- البناء الدائري: المكان والموت
تعددت حكايات الشخصيات مع الأماكن فأصبح المكان دالا على جدلية الحياة والموت، فبداية الشخصية ترتبط به ومصيرها ينتهي عنده ، فغلبت على الحكايات البناء الدائري للسرد تبدأ كل حكاية من نقطة معينة فى حياة الشخصية المحورية فى الحكاية وتنتهي بمآله داخل المكان، هكذا انتهى رفاعي الجد فى المحطة حين بدأت عملية هدمها فوجدوه جثة عند جرس المحطة الذي لم يعد لأحد الرغبة فى سماع دقاته ،وينتهي صلاح فى المدرسة التي شهدت صعوده على الأحداث حيث شنق نفسه" فى نفس مكان إلقاء جمال لخطبته الأولى والأخيرة بسنورس" #6
وحتى الموت الرمزي يحاصر عبد الرحمن فقد ابتعد عن قصر الثقافة بعد فصله من النادي وعاد إلى المدينة ليجاهد لمعرفة بيت عائلته الجديد ،فلم يتعرف عليه وكأن المكان لفظه بعيدا فلم تعد تعرفه مدينته.
ويتحول الموت فى ارتباطه بالمكان على موت عجائبي وخيالي ،فعبد المقصود الذي حاصرته ظلال ال؟اشباح منذ أن رأى قتيلا فى الشارع ظل الموت يتهادى إليه فى ظلال تيمة (العنزة التي بأرجل حمار) وهي تيمة شعبية تدل على التفسير الشعبي لعالم الجن ،ولكن هذه التيمة تلتحم بموته حين نجده لا يشعر بموته فيرى نفسه مغسلا ثم مارا على الكنيسة لتدق له الأجراس فى الشارع الذي حرس فيه لسنوات كنيسة البلدة، فاستسلم لموته دون احتجاج مثلما كانت ترغب زوجته فى حادذ اعتقال ابنه ناصر " استسلم لمن يرقدون ويفكون أربطته ..تركهم يكملون همسهم وحاول التشاغل بالتلفت فى المكان ..أحس باحتكاك قدميه بشيء ما تنهد بيأس واستسلم ..عنزة بأرجل حمار، واستجمع قوته ونظر ناحيتها لم يجد شيئا واختفى ناصر والرجل الغريب وكل الأصدقاء بعيدا عنه ..وظل عبد المقصود وحيدا فى ذلك المكان المظلم البارد" # 7
ولا يختلف موت سلوى عن هذا الموت العجائبي ،فقد انتهت فى المكان الذي أحبته وجابت بخيالها فيما وراءه من تمثيلات بصرية وهمية، فتوحدت مع الشاشة وغابت داخل الأفلام فى مشهدلا يخلو من تكنيك سينمائي أعطت فيه ظهرها للمتفرجين ووقفت تقطع طريق الأشعة " ووجهها للشاشة بشخوصها وعالمها ودخلت سلوى الفيلم"#8
تاريخ المدينة وأماكنها على هذا النحو أصبح جزءا من هوية الشخصيات يلعب دورا فى بروزهم وتشكيل وعيهم ،لكن عدم القدرة على مواجهة تحولاته يؤدى فى النهاية إلى الموت.
هوامش الدراسة :
#1 خيرى دومة :تداخل الأنواع فى القصة المصرية القصيرة ص 267
# 2 أشرف نصر :من حكايات سنورس سلسلة إبداعات ،الهيئة العامة لقصور الثقافة ،د.ت،ص 7
#3 السابق نفسها
#4 السابق ص9
#5 السابق ص 19
#6 السابق ص 37
# 7 السابق ص 32
# 8 السابق ص 60
* من دراسة: تمثيلات المكان : د.محمد مصطفى علي حسانين (قدمت ضمن أبحاث مؤتمر ثقافة المكان) عقد بالفيوم 2010
No comments:
Post a Comment