Oct 12, 2016

نظرة على السينما الإيرانية




نظرة على السينما الإيرانية:
كنت فى لقاء منذ شهور فى بيت ثقافة سنورس حول فيلم يوم اصبحت امرأة
والفيلم للسيناريست الابرز فى إيران :محسن مخملباف
ومن أخراج المخرجة مرضية مشكيني
(والفيلم يقدم مراحل العمر فى ثلاثة أيام –طفلة يمنعونها من اللعب من الطفل زميلها لأنها بلغت وشابة تشارك فى سباق دراجات على غير رغبة زوجها وأهلها ورجل الدين – وسيدة عجوز تعود من السفر وتشتري كل ما حرمت منه طوال حياتها من سلع استهلاكية !)
والفيلم كما يظهر من خلال قصته : يبدو بسيطا لكن يطرح قضايا نسوية وانسانية مهمة وضاغطة ومن خلال لغة سينمائية راقية بصريا
واستفدت من اللقاء جدا من خلال تعليقات من شرفونا بالحضور،
وهذه –التدوينة –هي مضمون كلمتي خلال اللقاء .
إيران بلد شديد الثراء حضاريا حتى قبل ظهور الإسلام، من خلال الثقافة الفارسية ثم تلاها اسهامات جادة وعميقة فى قلب الحضارة الإسلامية فى وقت صعودها،
لكن إيران فى مأزق تاريخيا وجغرافيا فهو بلد مسلم لكن يتعبد بالمذهب الشيعي وسط مسلمين يتعبدون بالمذهب السني، لغته فارسية بينما الجيران يتحدثون لغات مختلفة .
تزايد تركيب وتعقيد وضعه بعد الثورة الإسلامية 1979 وقيام نظام قمعي يحصي على الناس أنفاسهم ومع حرب 8 سنوات مع العراق ، وبإضافة تنوع العرقيات فى إيران من فرس لعرب لأكراد ،
لذا  يمكن تخيل  محنة المبدع الايراني من القيود الدينية والسياسية فى بلد يحرم حتى المصافحة بين الرجال والنساء على الشاشة على سبيل المثال وكمية محظورات رقابية دينية وسياسية وطبعا جنسية  الخ ، ربما القيود لا يعرفها أي مبدع للسينما فى بلاد العالم ،ربما هي الأشد قسوة
 (وهي محنة شبيهة للفنان فى البلاد العربية بعد ظهور الإسلام وتحريم التجسيد فخرج من قلب المحنة فن بديع هو فن الارابيسك، والنقش على السجاد وغيره من فنون نتجت للمفارقة مع ثقافات غير عربية كالفارسية)
لكن منذ عقدين من الزمن أو أكثر بسنوات قليلة انطلق تيارا سينمائيا يقدم لغة خاصة به تعتمد على تقديم قصص انسانية بسيطة فى ظاهرها عميقة المضمون وبلغة بصرية مدهشة ، ونجح المبدع الإيراني فى تحويل كل القيود الرقابية /السياسية
 لنقطة قوة عبر التركيز على التجريد والانسانيات
كأن فنان السينما الإيراني يقوم بفلترة الحياة وتصفيتها بحس فلسفي للتركيز على الحياة فى خلاصتها
عبر حكايات لا تعتمد لا على (الإنتاج الضخم أو نظام النجوم أو التعقيد فى حبكة الأفلام بل تعتمد على مواقف صغيرة تبرز مفارقات الحياة المؤلمة المبهجة معا)
وحصد هذا التيار بجوار المكانة فى تاريخ السينما العالمية عشرات الجوائز من كل المهرجانات الكبرى وليس غريبا أن يصبح هوسا لدى شباب السينمائيين فى العالم مثلما حدث من قبل عند ظهور الواقعية الجديدة فى إيطاليا أو سينما المؤلف فى فرنسا الخ من تيارات سينمائية تظهر لتجدد دماء الفن السابع كل عقد أو عقدين من الزمن.
فى قلب تيار السينما الإيرانية والإطار العام:القصص الإنسانية البسيطة
تنوعت بصمات المخرجين واتخذ كل منهم مساره الخاص
فنجد على سبيل المثال
1-اصغر فرهادي (من أفلامه :انفصال- عن إيلي- الماضي)
ويعد النموذج الأقرب للشباب الآن خاصة مع حيوية إيقاع أفلامه  وووصوله المستمر لهدفه من أقرب وأبسط السبل ،وواقعيته بعيدا عن الروحانيات والفلسفة (والتي سأذكر نموذجيهما بعد قليل)وسنجد تركيزه حول عالم الطبقة الوسطى والعلاقة بين الزوجين – جو مديني حداثي يتعامل مع تعقيدات حياة الرجل والمرأة فى الألفية الثالثة
2-سميرة مخملباف: (من أفلامها: التفاحة –السبورات )
قضايا المرأة بشكل عام –وفى رأيي- أنها فى طور البحث عن صوتها الخاص وبصمتها المختلفة
3-بهمن غوبادي(من أفلامه :وقت للخيول المخمورة-السلاحف يمكن أن تطير-معزولون فى العراق)
وهو يحدد هدفه بوضوح فى القضية الكردية فهو من أكراد إيران ، وأبطاله عادة المهمشون والمهربون على الحدود والأطفال المرضي وأحيانا مشوهون من أثر الحروب
وربما أكثر من يثير سخط الإيرانيين والعرب  نظرا لتعقيد القضية الكردية والنظر لها بريبة من الطرفين (الإيراني والعربي)
4- مجيد مجيدي(من أفلامه :لون الجنة- بران)
هو الصوت صاحب الحس الروحاني
 ويعتمد بالأساس على لغة الصورة ويقل الحوار فى أفلامه جدا حتى يصبح شحيحا أحيانا مستغلا المناطق الجميلة فى الطبيعة والأفكار الدينية المجردة لتوصيل الإحساس للمشاهد
وربما يعد النموذج الأقرب للتوجهات المحافظة فى النظرة للفن، حتى أنه يعد فيلما عن نبي الإسلام (محمد)، ورغم الروحانية التي أشرت لها لكن من المتوقع جدا ضجة هائلة حول الفيلم بسبب الخلافات السنية الشيعية
5-عباس كيروستامي من أفلامه: االريح ستحملنا-10- طعم الكرز)
ويعد هو الأستاذ بجداره لكل من سبق ذكرهم (وفى رأيي يعد النموذج الأقرب للنخب السينمائية أكثر من الجمهور العادي )
عباس كياروستامي هو صاحب الحس الانساني والرؤية الفلسفية
ويعد من شعراء سواء فى حوارات أفلام والتي تعتمد على قصائد شعرية أو حركة الكاميرا ونظرته للطبيعة وهمه الأساسي الانسان وعلاقته بالحياة ،صاحب نظرة تدعو للاستمتاع بالحياة ويظهر تعاطفا مع نماذج مضطهدة مثل المراة العاهرة والمسجونات،  والمرأة العاملة المطلقة الخ النماذج الواقعة تحت ظلم اجتماعي وديني.
رحل كيارستامي منذ فترة قريبة –بعد اللقاء الذي عرضنا فيه الفيلم-، وأعتبر يوم رحيله من الأيام التي بكت فيها الكاميرا !
*
أشرف نصر

Jan 23, 2016

عزيزي فطين: روح يا شيخ الله يسترك


مراتي مدير عام..
                      عزيزي فطين: روح يا شيخ، الله يسترك

أشرف نصر

فيلم: مراتي مدير عام
قصة: عبد الحميد جودة السحار
سيناريو وحوار: سعد الدين وهبة
بطولة: شادية - صلاح ذو الفقار
إخراج: فطين عبد الوهاب
كالعلامة المائية التي تكشف العملة الصحيحة من العملة المزيفة/ الرديئة، كانت أفلام فطين عبد الوهاب، كوميديا تحترم عقل المشاهد، تدخل قلبه لتخرج الضحكات الرائقة الصافية،قدم المخرج بعض التجارب الأخرى لكن تظل الكوميديا شغفه وتظل أفلامه الكوميدية شغفنا، نحن الذين نريد فيلما نضحك معه لا (اسكتشات) تضحك علينا،
وفيلم مراتي مدير عام ، من المجموعة الذهبية التي التقت فيها بوصلته الفنية مع سيناريو يليق به وبفريق العمل، يمكننا نقد مقولة الفيلم حول "جنة" المجتمع الإشتراكي "بالصيغة المصرية "التي جاءت فى بعض المشاهد فى نهايته، لكن لا أظننا نختلف حول فن صناعة الكوميديا كما جاءت بالفيلم،
فى أجواء تبعث على الملل والكآبة كأجواء موظفي الحكومة، ينسج الفيلم فرضيته البسيطة حول المرأة والرجل، رئاسة الزوجة للزوج فى العمل وكيف أدت الفرضية لتغيير حياة شخصياته، ربما نحفظ قصة الفيلم وجمل الحوار، لكن الجميل أن الكوميديا كما قدمت هنا، كوميديا الموقف، خاصة منذ أول يوم عمل، والبداية بالموظف أبو الخير (توفيق الدقن) الذي سيجري تحرياته وسيعرف حكاية المدير الجديد، فى عالم الفيلم، وننطلق مع كل شخوص المكتب والبيت والشارع، لنرى مفاهيم الرجل والمرأة، كما نعرف جميعا الأحداث، لكن الشاهد أن كل الشخوص موجودة وحاضرة ومرسومة بطابع مميز، من الموظف الذي يرغب فى اجازة للبحث عن عروسة، لمن يريد ترقية، لمن يرغب فى مكان المدير (الوكيل الاستاذ عبد القوي الذي يمثل الرجل المحافظ المتدين تدينا تقليديا يتمسك بالشكليات وفى آخر الفيلم يضرب كل ذلك بجملته الشهيرة: أبو حنيفة قال ماتنقضش)
وحين تشترك الشخوص المختلفة فى طابعها فى رد فعل واحد تزيد جرعة الضحك ببراعة صناع الفيلم، على سبيل المثال: حين يعرفون أن زميلهم حسين هو زوج المديرة، وتبدأ محاولاتهم للتسلق أو استغلال الفرصة، يأتي التصاعد من أبو الخير ثم بقية الزملاء واخيرا يأتي الوكيل يهدئه ثم يطلب هو الآخر خدمة، فيضرب حسين رأسه فى المكتب وهو يكاد يجن،
حتى قطعة الاكسسوار لن يفلتها المخرج الجميل فطين عبد الوهاب بل سيوظفها فى موضوعه، فحين تقوم عصمت المديرة بطلب من زوجها حسين أن يسمع خطبتها ويرفض،  تقف عصمت أمام تمثال لقط لتؤدي الخطبة أمامها فتدير القطة وجهها،
ولا يعادي المخرج فكرة النجم الكوميدي خفيف الظل أبدا ، فهو من قدم أهم أفلام إسماعيل ياسين، ولكنه إتجه فى مرحلته الذهبية لفكرة كوميديا الموقف والانماط البشرية فقدم أرض النفاق والزوجة 13 وإشاعة حب وغيرها
والأجمل توظيفه لممثلين لم يكن يتوقع أحدا منهم اداء الكوميديا وربما أشهر مثال هو يوسف وهبي فى إشاعة حب
لذلك سنجد هنا نجما كوميديا كالضيف أحمد يظهر لحظات فقط فى الفيلم، وحتى مواقف عادل إمام تمر موازية لكوميديا يكون بطلها شفيق نور الدين أو توفيق الدقن، فالموقف هو البطل وليس الممثل النجم،
الفيلم يقدم بالأساس نقدا إجتماعيا لتفكير الرجل المصري حول دور المرأة، لكن طبعا هو –نقد على خفيف- ليس كاشفا لعيوب المجتمع كفيلم أرض النفاق، ولا نسويا خالصا بمعنى التمرد على قيم المجتمع الذكوري، بل ظهرت قصة عصمت كحل متصالح وسطي ينبع من عقلية كاتبا القصة والسيناريو عبد الحميد جودة السحار وسعد الدين وهبة ، حول المرأة شريكة الرجل التي تحيا فى ظله وتحتاج دعمه ومساندته، نعم يمكن هدم كل "مقولات" الفيلم النسائية والسياسية خاصة فى الجزء الدعائي للنظام –لاحظ أن الفيلم انتاج القطاع العام- وفى 1966 ،عز سطوة النظام وقبل عام من العاصفة، لكن فى فيلم كوميدي كهذا ربما يغفر المشاهد ذلك ليرى عصمت وحسين فى حياتهما الجميلة والرقيقة ومنغصات الحياة التي تأتي بعد إنقلاب الأوضاع فى مراكز القوة بينهما،
أما الأجمل –فى رأيي- لم يكن عصمت وحسين وقصتهما، بل "شعب الله" من الموظفين وتصرفاتهم مع الزوجين، لتظهر براعة المخرج فى اختيار ممثليه حتى فى الأدوار الثانوية كما سبق الإشارة مثلا للضيف أحمد،ونرى يوسف شعبان فى مشاهد قليلة كنموذج الرجل" البصاص"،أو حتى ساعي المكتب أو خادمة البيت أو البواب، ملمح صغير يمنحه الفيلم للشخصية فنظل نميزها عن الباقين،وتخدم فى دوامة هائلة من الضحك لعجائب بني البشر، وليس كما يقدم –كثيرا للأسف- من إسفاف فى تسفيه الأخرين (كالعنصرية ضد الأسود أو القزم أو البدين) أو التلوي بالمؤخرة إلى آخر عجائب ما يتم الزعم أنه كوميديا، 
أما الملمح الاخير الذي نتوقف عنده هو استخدام الايفية اللفظي أكثر من مرة لا كتكرار –كما يفعل البعض- بل لزيادة الأثر عبر تلوينه كل مرة بأداء مختلف
الموظف أبو الخير- الإسم الذي ليس على مسمى على الإطلاق – له "لزمة" فى الكلام:
 روح يا شيخ الله يسترك
يقولها أول مرة وهو يشيع أبشع الأوصاف عن عصمت قبل حضورها، ويقولها حسين له وهو يقصد "يفضحك"، ثم يقولها أبو الخير وهو يودع عصمت ولكن بإظهار الأسف هذه المرة،
وكمرة رابعة أقولها للمخرج فطين عبد الوهاب، ناظر الإخراج الكوميدي ولكن كدعاء وحفظ لجميل إسعاده للملايين رغم مرور كل السنوات! والأهم أنه و-كل من احترم عقولنا فى الكوميديا- لم يجعلنا نكفر بهذا الفن الجميل، ونؤمن فعلا أننا "أحيانا" شعب "دمه خفيف"،  روح يا شيخ الله يسترك.
 ***
نُشر بمجلة أبيض وأسود
العدد 48 ديسمبر 2015