Jul 20, 2010

حرية دوت كوم..حرية بلا قلب


-->
حرية دوت كوم..حرية بلا قلب *
دراسة د.وائل غالى
الأسهل علي أن أبدأ بإشارة شخصية .ولد أشرف نصر فى الفيوم عام 1976 ،ثم درس السيناريو بالمعهد العالي للسينما بالقاهرة حيث التقينا ،أنا أستاذا للمواد النظرية بالمعهد ،وهو متلقيا للدرس بعد فراغه من دراسة الحقوق بالجامعات المصرية ،أصدر أشرف مجموعة قصصية بعنوان"صوت الكمان" (2000) ورواية "من حكايات سنورس"
عن بلدته الصغيرة بالفيوم (الهيئة العامة لقصور الثقافة ،2003) و"رباعيات على عتبة بيتنا وقعت منى حدوتة" (موقع كتب عربية،2006) ثم فاز بجائزة القصة فى مسابقة "ادب الحرب" ،مجلة "النصر"،1998، وبجائزة القصة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة ،عام 2002 ثم نشرت رواية "حرية دوت كوم".
اعتبر أشرف نصر واحدا من الكتاب الشباب المتميزين الذين يرون أن هوس الكتابة الأدبية الأهم هو الجنس، وان كتابة الرواية هى نفسها سرد للهستيريا الإلكترونية .إنه يثير اهتمام الناقد ،فيما يرفع الحواجز بين النص والنقد .انطلاقا من مثال متميز هو "الجنس" ،روى المؤلف قصة القمع الجنسي الذي يفعل فعله فى اللغة نفسها،وهو شيء لم يتمكن منه إلا بخروجه من إجراءات البوح التي تمارس فى الأماكن الدينية والمدرسة والمستشفى والتي تبحث مع ذلك وفى آن واحد فى واقع الجنس .فالحياة الجنسية، او ما بقى منها ،تجاوزت حدود المنزل ،حتى عادت لا تنحصر فى غرفة الأبوين .مع ذلك ،فرضت قاعدة الصمت .وسادت الرقابة .وما بقى من الجنس صار مجردا من الفرح.
يحكى الراوي قصة شريف/البطل مع"حرية دوت كوم" ،أي مع ذلك"المنتدى" الذي يفتح للجميع"آفاق الحرية الحقيقية" ،أي الحرية الجنسية ،وهى فى الواقع حرية افتراضية – انحيازا إلى الحلم ورفضا للواقع وهو ينمو ويتطور ويزيد تعقيده وتخلفه كل يوم. وهو انحياز وارد على كل شيء حتى ملامح الوجوه وأنماط السلوك وجرس الكلمات وتراكيب العبارات وتطور الحدث وكصائر وأقدار الشخصيات فى الرواية والجو العام الذي يحيط بهم ،فضلا عن الإيقاع الفائق السرعة لحركة السرد.
وأقول عن هذا الانحياز إنه يوجهه إلى منابع محددة للتجريب وإلى طريقة محددة لتلقى التجربة وإلى منهج خاص فى صياغة ما تلقاه من تجارب وأنه شكل مزاجي الخاص فى الانفعال بتجاربه وأنه أمده بالأدوات والخطة لكى يحول انفعاله إلى الاحتجاج.
وقد يبدو عنوان"حرية دوت كوم" اقتباسا لعنوان فيلم "ثورة الماكينات"لمدكور ثابت الأستاذ الآخر الذي درس أيضا للمؤلف مادة الإخراج حينما كان بالمعهد .وهو فيلم رائد سابق على ميلاد المؤلف نفسه.فعندما نوسع مجال مناهج الأدب خارج إطار العناصر الداخلية للعمل الأدبي فإن أول شيء يشمله التوسيع هو الفنون الأخرى ،ذلك أن الإحاطة العامة بالفنون كلها تجرى أساسا على المستوى الجمالي إذا اخترقنا نطاق الناحية الأدبية الخالصة فى العمل الأدبي .والعلاقة الوثيقة بين فن السرد الروائي وفن كتابة السيناريو السينمائي المجاور ،تمثل حقيقة مضيئة تظهر منذ الوهلة الأولى.
ولقد اختلفت نظرة العصور المتباينة إلى الفعالية المباشرة والمدى والأهمية التي تنسب إلى ما يكون بين الفنون المختلفة من تأثير وتداخل وتغلغل متبادل.فقد أكد لسينج استقلال كل من الأدب وفن التصوير واختلافهما أحدهما عن الآخر اختلافا نوعيا.أما الرومانسية فقد انطلقت من مفهوم وحدة الفنون جميعا وإن كان للفنون استقلالها الذاتي من الناحية النظرية، فذلك لا يمنع التأثير المتبادل بينها، تختلف درجته من حالة لأخرى ومن كاتب لآخر.
وعندما نوسع مجال مناهج الأدب خارج إطار العناصر الداخلية للعمل الأدبي فإن ثاني شيء يشمله التوسيع هو العلوم . وكان تحديد حدة التعارض التقليدي بين العلم والفن من صنع جملة التيارات الفكرية التي شهدتها الحقبة العربية الكلاسيكية.وثمة حدث مهم وهو ان الفقهاء المسلمين والمتكلمين والعلماء على اختلاف تياراتهم وميولهم بل والفلاسفة المتأثرين بالتراث اليوناني، مثل الكندى أو الفارابى ،قد أسهموا جميعا بنحو أو آخر فى تضييق الشقة التقليدية التي كانت تفصل بين العلم والفن .فإن هذه العلاقة الجديدة بين العلم والفن أزالت العقبات التي كانت تقف حائلا دون صياغة قواعد الفن وأدواته فى موضوعات العلم ،بل كان إيذانا للمعارف بأن تعتبر معارف علمية من دون أن تطابق النموذج الأرسطى القديم أو النموذج الإقليدي الهندسى المعروف.
ظلت المسألة ما بين السينما والأدب ،كما هى،مسألة موقف الأدب والفن من هجمة العلم وتغلغله فى الحضارة الحديثة ،أما التكنولوجيا فهي مثلها مثل الهندسة،مبنية على العلم واكتشافاته ،بل يمكن تعريف التكنولوجيا ببساطة على أنها التطبيق العملى للعلوم المختلفة ،فهى الوسيلة العملية التى تحول الاكتشافات العلمية النظرية إلى مخترعات شتى نستفيد منها فى جميع جهات حياتنا.وتبحث التكنولوجيا عادة فى كيفية تنفيذ إنتاج سلعة أو أدوات أو معدات جديدة أو تشييد مبنى أو منشأة يحتاج إليها المجتمع ،وكذلك استحداث أشكال جديدة متطورة من الطاقة.
استعمل الإغريق القدماء كلمة "تقنى" للدلالة على الصناعة وعلى الفن معا.وأطلقوا على الصانع والفنان اسم "الفنيين".بل لا تعنى كلمة التقنية اليونانية معنى الصناعة ،ولا تعنى الفن ،كما لا يعنى الفن كله بمعناه اليوم ،ولا تعنى أبدا نوعا من الإنجاز العملى إنما هى تسمية طريقة العلم فى البحث.
وما حدث هو أن جيمس جويس وت.إس.إليوت وأمثالهما من الكتاب الغربيين المحدثين قد انتقدوا العلم واستوعبوه واستعملوه وأثروا فيه.
يمثل شعر ت.إس.إليوت فراغ الحضارة الحديثة ،أي فراغ حضارة العلم والصناعة التي بلغت بالإنسان درجة كبيرة من السيطرة على قوى الكون المادية .وعلى المستوى التعبيرى ترك فن السينما فى الشعر الإنجليزي المعاصر بعد الأثر .فالطريقة المرعية فى الإخراج السينمائي هى الانتقال المفاجئ السريع من منظر إلى آخر من دون اعتبار لصلات الزمان أو المكان أو التسلسل المنطقي فى عملية الانتقال هذه ، والاعتماد التام على وحدة الفيلم فى مجموعه وعلى التتابع العاطفى وحده فى أجزاء الفيلم المختلفة .
يقدم كاتب"حرية دوت كوم" رواية واضحة – وهذه ميزة من ميزات النص وليس عيبا- تستحث الهمم على الفعل شعارها :"أكتب ما تشاء وشارك فى أقسامنا الرئيسية وابتكر أقساما فرعية فى أى موضوع يشغلك :مبدؤنا حطم قيودك وامتلك حريتك ." ولغة المؤلف فى رواية "حرية دوت كوم" الأخيرة تكاد تكون عن قصد محكية اللهجة و"غير شعرية" .كأنه أراد لروايته أن تكون أيضا صرخة احتجاج.
واقتراب الكاتب من موضوع الجنس هو اقتراب من أحد أهم موضوعات الكتابة المهمة جنبا إلى جنب مع موضوع الغيبية ،والبقاء وهى استعادة شبه لاواعية وعفوية للتصورات المعروفة عن دوافع الإنسان الجنسى. ولم يفت الكاتب أن يربط مشكلات الغريزة الجنسية بمشكلات الغريزة الدينى بشكل عام .بل تكاد الغريزتان أن تكونا وجهين لعملة واحدة.أن رواية"حرية دوت كوم" القصيرة تزخر بأمثلة هى فى الواقع مقاطع سردية درامية لغزو العالم للرؤية، والنشوة الافتراضية والسيكولوجية العامة ، ونكران تقنيات السرد الخطى المعروف .وهو ككتابة صنع الله إبراهيم فى فترة "تلك الرائحة" بالذات ،يدمج التسجيل الإلكتروني من جهة ،والمشهد الروائي المجسد،من جهة أخرى .وكان صنع الله إبراهيم فى تلك الفترة من أدباء الموجة الجديدة فى مصر، ونشر هذه القصة للمرة الأولى فى كتاب صدر فى القاهرة عام 1966 بمقدمة ليوسف إدريس ، مع أن يوسف إدريس هو الذى قال :إن جيمس جويس وإليوت وأمثالهما ، قد انهزموا أمام العلم –فى رأى – فأرادوا ان يتزيوا بزى العلماء ، وما كان ينبغي لهم ذلك ." ولم يتح لكتاب"تلك الرائحة" أنيصل إلى القراء ،فقد اعترضت عليه الرقابة المصرية واستصدرت قرارا من السلطات الإدراية بمصادرته .فكان ذلك أول عمل أدبي يصادر منذ "المعذبون فى الأرض" لطه حسين فى عام 1950 .وصدرت القصة فى طبعة كاملة عن دار شهدى بالخرطوم عام 1986 .
إن رواية"حرية دوت كوم" القصيرة عن الفن من التطرف الإلكتروني ما يبين أنه يطالبنا بضرب معين من التكييف الذهني لاستيعابها .فأحد تعليقات "شريف" على أم المعارك الحقيقية –روز،تقول:"كان التقزز يسيطر علي ..روز وأسرتها والهولنديون ومضايقاتهم وبغداد وأهلها وما يفعلونه من جنون." إذا استجبنا لهذا القول معتمدين على المعاني التى نقرنها عادة بالكلمات الواردة فيه، فإنه سيبدو ، كما أراد له الكاتب أن يبدو أشبه بكلام صادر عن رجل فى مقابل آخر مرحل جنون صدام الحضارات .وهى استعادة من هذه الجهة لرواية"موسم الهجرة إلى الشمال" 1967 وترجمت إلى اللغة الإنجليزية فى العام 1969 ،للطيب صالح ،وسرده لصدام الحضارات من خلال تصوير العلاقة بين مصطفى سعيد وهو طالب سودانى شاب أظهر نبوغا واضحا فى دراسته فى السودان ومصر ،وعدد من النساء الإنجليزيات .
وهنا صارت العلاقة بين شريف وروز الهولندية.لكن روز الهولندية فى رواية "حرية دوت كوم" هى أقرب إلى مارى فى "قنديل أم هاشم" ليحيى حقى منها إلى الإنجليزية فى "موسم الهجرة إلى الشمال" .
فروز كمارى فى قنديل أم هاشم ليحيى حقى تنجح فى تدمير القيم التقليدية لبطل الرواية المصرى شريف .روز هى كمصطفى فى "موسم الهجرة" تبدو غازية. وشريف كإسماعيل فى قنديل أم هاشم كاد يفقد عقله وشرد،بعيدا من أسرته وجعله يكفر بالوطن والدين والأهل والقوم.
فشريف فتى قروى وإن عاش فى المدينة .نشأ فى صراخ الأب المنتشر فى سماء البيت والمخترق أذان شريف الراقد على سريره والمختبئ تحت البطانية من صوت أبيه وبكاء أمه وصخب أخوته .لم يكن يعرف سبب المشاجرة الجديدة لكنه توقع أن تكون بسبب المال .
الانفصال والتمزق من اللحظة الأولى فى الرواية من دون انتظار .مع اندفاع الأب للغرفة اخترقها الضوء وتجلت له رائحة الدخان المكتوم فى الغرفة المغلقة،أغمض شريف عينيه محاولا بتلك الإغماضة أن يمنع أو يؤجل مواجهة مل من تكرارها ،لكن الأم شدت الأب للخارج وهى تمنعه من إكمال سبابه عبر كلمات اختلطت بالدموع .تأكد شريف من خروج الجميع فرفع الغطاء وجلس ينفخ بملل، وبينما يمد يده لعلبة السجائر الموجودة تحت الوسادة ميز كلمة واحدة من بين صرخات أبيه
الفاتورة
وينتقل شريف مباشرة إلى لب الموضوع : فهم شريف سبب غضب أبيه ولأول مرة منذ فترة طويلة يلتمس له العذر. أشعل سيجارته ثم فرك عينيه وهو يحاول تذكر كيف بدأ كل شيء .لم يستطع التأكد هل كانت البداية منذ الشهور الثلاثة الأولى الأخيرة والتي لازم فيها جهاز الكومبيوتر .
وينتزع الفتى القروى من أرضه وناسه ، يدفعه طموحه وتطلعه هو إلى مستقبل أرحب وأرغد، إلى الملاحة الإلكترونية فتحدث أحداث فى منزله الذى لا تنقطع فيه المشاجرات .فكالعادة يختبئ أخوته الأطفال خوفا من بطش الأب ولابد أن أمه الآن تبكى فى مكان ما،والأب الثائر لا يفعل شيئا إلا عند أول وجبة تجمعه مع شريف أول مداعبة أو شبح ابتسامة تظهر على شفتيه .
تصطرع الأفكار والأحاسيس فى روح أبيه حتى تختزن الثورة فى الصدور لتشحن حقدا جديدا بينهما.فى المطبخ تنظر له الأم ثم غضت بصرها عنه.لم يحدثها ،فشريف لم يكن مستعدا لأي شيء.
والجنس هنا هو نفسه وهو فى الوقت نفسه "اليجوريا" ،أي أن قصة الجنس الرمزية هى إشارة إلى شيء آخر هو صدام الحضارات المتكرر فى العصر الحديث،بين الحضارة القديمة المتوارثة والحضارة الفاوستية الجديدة.وهو الصدام الذى يتكرر منذ فترة الحملة الفرنسية على مصر والتى رواها الجبرتى فى "عجائب الآثار فى التراجم والأخبار" ،ورواها صنع الله إبراهيم من جديد ،فى رواية "العمامة والقبعة" 2008.
فتحت مصر ابوابها للحضارة الغربية، كما هو معروف ،من بعد غزو الفرنسيين لها فى أواخر القرن الثامن عشر الميلادى ، ومن بعد تقلد محمد على باشويتها فى أوائل القرن التاسع عشر الميلادى،فتنبه المصريون إلى أشكال حضارة غريبة عنهم،رأوها أثناء إقامة رجال الحملة الفرنسية بالقاهرة.
وتبدو لى رواية " العمامة والقبعة" الأخيرة من روايات صنع الله إبراهيم وكأنها الوجه الآخر لرواية أمين معلوف على " الحروب الصليبية كما رآها العرب" 1989 ،التى سبقت صدور رواية صنع الله إبراهيم بعشرين سنة تقريبا. وقد انطلقت رواية "الحروب الصليبية كما رآها العرب" من فكرة بسيطة هى سرد قصة الحروب الصليبية كما نظر إليها وعاشها وروى تفاصيلها فى الجانب العربى .واعتمد محتواه بشكل حصرى تقريبا على شهادات المؤرخين والإخباريين العرب فى تلك الحقبة الدقيقة من تاريخ الصراع العربي-الغربي.
وأتصور أن ذلك الجدل المحتدم بين الحضارات هو الوجه الآخر للجدل الفنى بين الواقع والحلم وهو اللحظة الأولى التى تتولد منها شرارة الكتابة ،وأتصور ان ذلك الجدل المولد لشرارة الكتابة لابد كائن خلف كل مقدرة إبداعية فى أي لون من ألوان الإبداع الفنى .
هذا الجدل بين عالمين :الأول قاهر لكنه واقع، فهو ضرورة ،والثاني ملاذ ، لكنه مهرب ،فهو حلم إلكتروني ، ولقد كان التعرف الأول إلى الحياة صارما ، وإذا ما تحقق الكاتب من قبح وتعقيد ومحدودية الملاذ الإلكتروني ،فهو معطى له سمات كونية.ثم بدأ يتعامل مع حتمية الثعلب بين العالمين ، بين قريته حيث ولد ونشأ وبين المدينة حيث تعلم ثم عمل ثم تجربة "المدينة-العالم".
وللكاتب مقدرة على وضع تصوراته الأساسية فى هذا الشكل الإلكتروني الجنونى المموه ،وكانت النتيجة أنه تعمد تضليل جميع القراء الذين يؤثرون الاعتقاد بأنه مجنون على الظن بان استعمالهم للغة غير واف.
ومثل ذلك ،فإن ربط الكاتب الحرية بالفنون الإلكترونية تعنى ،أولا ،أن فكرته عن العولمة تتضمن أكثر مما نقرن نحن بها ، وتعنى ،ثانيا، أنها تستثني معظم ما نقرنه نحن بها .
إن الكاتب يسمى العمل الفنى ما قد تسميه لغة تقليدية أبسط عمل إحسان ومحبة.
وسواء اتفقنا، أو تعاطفنا، مع موقف المؤلف أم لا،فإن ما يقوله يشتمل على وجهة نظر ،ووجهة النظر هذه لابد لنا من تمحيصها.
إحدى خصائص كتابة أشرف نصر التى تلفت نظر كل قارئ هى قطعه السينمائي والإلكتروني للحركة المتصلة للسرد الروائي القصير .
مع ذلك ،فإن شيئا ما يتحرك –هى حركة الجسد ،ولكنها تعبير عن احتجاج أكثر منه موقفا ثوريا واعيا .فى لحظات الثورة فى تاريخنا نجحت الجماهير فى أن تعلى ذواتها عن هذه السلبية والانحطاط ،وتتألق فى التصدى للواقع .وفى عصور النكسة والانحطاط ، تتـألق فى التصدي للواقع بجدية غير مخدرة ، وتضع الحلم فى موضعه الحقيقي ،لا كمهرب وملاذ ،بل كقدرة تضاف لمضاعفة الإيجابية فى التصدى للواقع .وفى عصور النكسة والانحطاط يسيطر مرة أخرى هذا التمزق لكن من دون أن تعود الجماهير إلى ذات النقطة التى بدأت منها.
إذا قرأن رواية "حرية دوت كوم" كما أراد الكاتب لنا أن نقرأها ،فإننا لا نقرأها بالمعنى المعروف أبدا : إننا نحدق فى متوالية سردية.
النصوص التى أوردها الكاتب لكتاب آخرين ،كرواية"وليمة لأعشاب البحر/نشيد الموت(ط7سورية،دمشق،دار ورد200) لحيدر حيدر ،وقصيدة نزار قبانى "أنا رجل واحد ..وأنت قبيلة من النساء" و"تلك الرائحة" لصنع الله إبراهيم،هى نصوص –رغم ما بينها جميعا من اختلاف فى الأسلوب وبنية التعبير عامة- أثرت فى رواية "حرية دوت كوم" وإن كانت "تلك الرائحة" هى الأقرب "لحرية دوت كوم".
صدرت "حرية دوت كوم" كما ولدت "تلك الرائحة" عن لحظة يأس معينة.فالواقع والحلم نقيضان فى مركب سمته الأساسية العجز والقصور. من حيث إن الحلم هو تشبث بالمستحيل ناشئ عن اليأس من الواقع، وممارسة الواقع يشلها التحذر الناشئ عن التشبث بحلم مستحيل.ووجود النقيضين بهذا الوصف معا لا يخلق إلا مركبة سمتها الأساسية العجز.
من هنا تكتفى الرواية بأن ترصد الواقع كما هو من دون محاولة للتأويل أو تفسير الكابوس الإلكتروني ،بل الهم الأساسي هو الإلمام بالواقع ،ومحاولة فهمه لا مجرد رصده .فالثورة الإلكترونية لم تمنح أي حرية على وجه الإطلاق إنما منحت قالبا جديدا لمحتوى السيطرة .وهو محتوى لا يراه الإنسان –فى تصورى- إلا ببصيرة سياسية ،واسمحوا لى ان أن أطور الكلام وأقول أنه لا يوجد فن من دون وجهة نظر سياسية هذا إذا ما رأينا فى السياسة شيئا أشمل من حمل بطاقة حزب، القبول والانضواء ،الرفض والتظاهر،أو أي لون آخر من ألوان الممارسات السياسية المعتادة واللازمة ،والتى قد يمارسها الإنسان كمسئول عن إنسانيته وعن انتمائه لوطنه .بعبارة أخرى ،فإن نزار قبانى الذى يستلمه الكاتب والذى كان استلهم عمر ابن أبى ربيعة فى تصوير أحاسيسه نحو المرأة اتخذ المرأة وسيلة للتعبير والمعرفة وتحدث عن الجنس بطهارة،اعتمد فى شعره على المرأة والجنس والحب واتخذها وسيلة لبث أفكاره الأخلاقية،على أنه لم يقف فى شعره عند هذه الآفاق الحسية وحسب بل خطا خطوات فى التعبير عن مجتمعه وقوميته عن وطنه العربى وعن نزعته الإنسانية وخاصة الفترة الأخيرة ،فقد تجاوز الذاتية إلى الموضوعية ،فكتب قصائد عن"المجتمع" المكبل بالتقاليد وعن القومية العربية الثائرة المتفتحة وعن الوطن المتوثب ،ففى قصيدته "قصة راشيل" يصف الفتاة اليهودية المجندة التى لاقت صنوف العذاب فى سبيل أن تصل إلى فلسطين:
"أكتب للصغار
للعرب الصغار حيث يوجدون
قصة إرهابية مجندة
يدعونها راشيل
قضت سنين الحرب فى زنزانة منفردة
وأبحرت من شرق أوربا مع الصباح
من النمسا من استامبول من براغ
من آخر الأرض من السعير
جاءوا إلى موطننا الصغير ."
كذلك فإن رواية "وليمة لأعشاب البحر" لحيدر حيدر ليست رواية حسية وحسب إنما تعبر عن المدينة العربية الموحشة ، المحكومة بالإرهاب والجوع والسمسرة والدين والحقد والجهل والقسوة والقتل –مدينة تكره الغرباء ، ورغم جوارها للبحر والغابات فهى تبدو حزينة .أن الحب ينمو داخلها نمو النباتات بين شقوق الصخر، مهددا بالموت متى حاول الوقوف تحت الشمس.
كذلك فإن رواية "الخبز الحافى"لمحمد شكرى ليست رواية حسية وحسب ،غنما تعبر عن محاولة تسجيل مرحلة زمنية عن جيل الصعاليك فى عهد الاحتلالين الإسبانى والفرنسى والدول التى كانت لها هيمنة لا تقل عن الاحتلالين المباشرين،خاصة فى مدينة طنجة الدولية.
لقد حاكم كاتب "الخبز الحافى" نفسه وأسرته والمجتمع بقانون الشيطان الذى أوعاه باكرا معنى الإستغلال والقمع اللذين أيقظا فيه التمرد والحرية.لقد قال ألبير كامو :"لم أتعلم الحرية من كارل ماركس ،ولكنني تعلمتها من البؤس".
إن ما كتبه محمد شكرى فى هذه السيرة هو وثيقة اجتماعية ،وليس أدبا بالمعنى المحدود للكلمة ،عن مرحلة معينة آثارها السيئة مازالت تنخر مجتمعنا العربى إلى الآن.
مع ذلك، ربما اقتصر كاتب "حرية دوت كوم" على الرصد لشعوره بضرورة تواضع دوره .فأن تكتب من أجل الشعب..يعنى ذلك أن تغتر وأن تنخدع .يعنى ذلك أيضا أن تتكلم نيابة عنه،ان تمنعه من حقه فى الكلام .هذه حقيقة خطيرة خاصة أن الكتابة تنطلق عادة من شعور صادق ونية حسنة .والحال ان هذه الحقيقة تكشف عن تحول سحر الديماجوجية البارع إلى اغتصاب وتشويه واحتقار. إن الشعب ،نظرا لهويته المعقدة وغير المتجانسة ،ولتركيبه غير المحدد والمتناقض ،ولبنيته المجردة الدقيقة ،لا يمكنه نطقيا أن يندب شخصا ليتكلم نيابة عنه ،تجاوزا ،يمكن لجماعة معينة أن تفوض لشخص نقل كلام بصيغة الجمع أو معبرا عنه بغموض .لكن يستحيل على شعب بكامله أن يتعرف إلى ذاته فى شخص واحد ويتوحد معه .غن العكس هو ما يحدث عادة .فقد يوحى رجل واحد بأن وراءه شعبا بأكلمه ،ويبعث على التوهم بأنه "تعبير أصيل" ،وخلاصة رائعة لملايين الذوات المفردة،ومن ثم لعدد لا نهائي من المتغايرات والمتناقضات .هذه الظاهرة تسمى باسم "الدكتاتورية"
ثمة إيحاء ما من خلال عملية الانتقاء للظواهر المرصودة وينعكس ذلك الاختيار على اللغة ،فالجملة فعلية ،قصيرة،تخلو من التشبيهات وألوان البلاغة التقليدية ،من الترهل والاسترسال المعتادين فى السرد الكلاسيكي الحديث والقديم،عبارة محايدة تقريرية ،لا تحيل على شيء ،منظومة من تتابع لاهث ،لا يتوقف للتحليل والتمحيص والتعقيب،ترصد كل شيء ، فظواهر الواقع كلها تتساوى فى القيمة ،ترصد وحسب،من دون أن تحفل بالتقاليد الاجتماعية (فتتحدث ببساطة شديدة عن اللواط والاستنماء وزنا المحارم )،ولا بالأنواع الأدبية المستقرة.
ولم تكن مصادفة أن صدر صنع الله إبراهيم "تلك الرائحة" عند نشرها بكلمة لجيمس جويس على لسان بطل "صورة الفنان فى شبابه" ،يقول فيها:" أنا نتاج هذا الجنس وهذه البلاد وهذه الحياة ..ولسوف أعبر عن نفسي كما أنا". و"صورة الفنان فى شبابه" سجل لجميع الأطوار الأولى فى نموه النفسي والعقلي ،وهى وصف للصراع الذي نشب فى كينونته بين الشخصية الفنية والشخصية الدينية.
لا شك أن تطور أسلوب الكاتب فى التصوير السينمائي –الإلكتروني كان له أثر كبير فى تقطيع الخطة فى بنية الرواية.ونلاحظ أن نماذج الكاتب الثلاثة التى تمتاز باستثناء قصيدة نزار قبانى "أنا رجل واحد..وأنت قبيلة من النساء"،بالحركة السردية ،وهى رواية "وليمة لأعشاب البحر"لحيدر حيدر ،ورواية "الخبز الحافى/سيرة ذاتيةروائية"1935-1956،رؤية ،2008 لمحمد شكرى 1935-2003،التى ترجمت إلى 39 لغة ،و"تلك الرائحة" لصنع الله إبراهيم ،لم يصورها قط وإنما أورد العناوين ضمن جداول وكأن إشارات إلى طريق مسبوق .
ونلاحظ أيضا أن الصور والكلمات فى الجدول الواحد من جداول "حرية دوت كوم" لا تصور النص ،وأن ترتيب الجداول فى الأجزاء المختلفة من الرواية يختلف قليلا عما هو فى الأجزاء الأخرى.
من الواضح إذن أن حذف الحركة المؤقت أمر أساسي بالنسبة لتركيب هذه الرواية ، وأن وضع متوالية للجداول أمر ينسجم مع النظام الكلى ،وليس مجرد مصادفة .
موضوع رواية "حرية دوت كوم" هو لحظة إشراق فى ذهن الكاتب ،وهى لحظة ،كلحظات التبين، تصل بينه وبين سلسلة من اللحظات السابقة تمتد عودة إلى خلق العالم- إلى الإلكترون.
فى "حرية دوت كوم" عملاق واحد ،حلمه هو الآلة .إن التاريخ فى "حرية دوت كوم" هو نسق من لحظات يحدها المكان .
أى أن ما يقال يراد به أن يقدم سياق لحظة الإشراق كنسق آني واحد من الإدراك.
مع ذلك فإنه يشكل سردا قصصيا ،بل يتقدم ،أشبه بالتقدم المكاني ،من تلك اللحظة ،فالكاتب يتصور "المدينة العالمية" كصورة تمتد عكسيا من الجحيم إلى السماء وتكتظ بالأشخاص والإشارات. ثم إن كل ما يقال فى النص يراد له أن يجد موضعه فى هذا النسق التصويري الآني ، وأن يشكل فى الوقت نفسه سردا يمتد خطيا .
يرى الكاتب الماضي ،والحاضر ،والمستقبل، وكلها موجودة معا أمامه، وهي فى الوقت نفسه منفصلة.
* دراسة منشورة بمجلة الثقافة الجديدة العدد 238- يوليو 2010
http://ashrafnasr.blogspot.com/

تاريخ المكان وتحولاته..قراءة فى رواية: من حكايات سنورس


-->
تاريخ المكان وتحولاته*
قراءة فى رواية: من حكايات سنورس
د.محمد مصطفى حسانين
 
فى رواية أشرف نصر(من حكايات سنورس) يعمل المكان الروائي بوصفه عنصرا أساسيا فى تشكيل وعى الشخصيات ومنبعا لا ينضب لتاريخهم وأفكارهم وتحولاتها مع مرور الزمن ومن ناحية أخرى فعلى الرغم من أن المكان الرئيسي يفصح عن الغوص فى سرد ممعن فى محليته فإن تلك المحلية أو الإقليمية تتوارى حين نرى المكان وتاريخه مشدودا عبر الزمن إلى تحولات ترمز إلى تحولات الوطن نفسه ولكن ذلك لا ينفى خصوصية الحوادث التي تجرى فيه وتصبغ شخصياته بسمت خاص.
"حكايات سنورس لا تنتهي" هكذا قالت العمة ياسمين فى بداية الحكاية الأخيرة المعنونة ب"البيت" وبين تلك النهاية وبداية الرواية تتعدد الحكايات وتتوالى فالرواية مكونة من سبع حكايات تبدو لأول وهلة وكأنها حكايات مستقلة تقوم على لون من الانفصال الخاص الذي يكون دلالتها فلا تفتقد كل حكاية إلى حبكة خاصة تصنع تميزها داخل الرواية،وكأننا أمام عدد من القصص القصيرة المتجاورة أو سرد يقوم على
"حلقة القصة القصيرة
Short Story Cycle
التي يعدل فيها القارئ فهمه لكل قصة فى ظل القصص الأخرى" #1
ولكن هذا الافتراض يختفي فى ظل تلاحم الحكايات وتداخلها وقيامها على البناء التراصفي المتصل بين المجموع ومن هنا يبدو أسلوب تقسيم الرواية إلى مجموعةمن الحكايات –التي تجمع بين الاستقلال والتداخل مع غيرها فى آن- أشبه بتكنيك تقسيم الرواية إلى أقسام وفصول فكل حكاية تعقد علاقة دلالية وتكاملية مع التالية وهكذا إلى نهاية الرواية.
- بطولة المكان/تاريخ المكان
ويبدو الخط الناظم لهذه الحكايات قائما على التداخل بين سيرة المكان وسيرة الشخصيات فنجد أن مدينة سنورس هي القطب المكاني الذي يشد مجموعة الحكايات فى حين يلعب هذا المكان دورا محوريا فى نسج السرد من خلال الاعتماد على خط سردي دقيق هو سرد تحولات أسرة (رفاعي الصعيدي) وأبنائه وأحفاده فى هذا الحيز الجغرافي فتبدو الرواية وكأنها على صعيد آخر تنتمي إلى (روايات الأجيال) ولكن بأسلوب مصغر وسرد مكثف ومن هنا تبدو بطولة المكان الذي يعمل بوصفه محيطا ومنطلقا لكافة الحكايات.
وتتكون سردية المكان من خلال الترابط بين السرد الإطاري والحكايات الداخلية فى الرواية فهناك علاقة وثيقة بين السرد الإطاري الذي يقوم به المكان العام الذي يتمثل فى (مدينة سنورس) ومجموعة الحكايات المكونة لدلالته فالمكان الإطاري لم يأتنا إلا عبر تجزئته إلى أماكن معينة فى المدينة دالا على محاصرة المدينة فى مؤسساتها وهكذا نجد الرواية موزعة إلى حكايات : المحطة،والشارع:شارع سعد زغلول(مكان وجود الكنيسة)،والمدرسة والسينما وقسم الشرطة وبيت الثقافة ،والبيت(بيت العائلة).
وفى حكايات هذه الأماكن تبتعد الرواية عن رصد الحدود الجغرافية للمكان ومكوناته من محتويات،فلا تقوم على وصفه أو الميل إلى تجسيد أبعاده بل تصبح هذه الأماكن وحكاياتها أكثر اقترابا من تعيينها بوصفها مؤسسات تعبر عن تميثلات سيسوثقافة يكشف السرد الروائي عن تحولاتها وانعكاساتها عبر المكان والأفراد فكل الأماكن ترتبط بقصة شخصية أو فرد من أفراد عائلة(رفاعي الصعيدي) ،هكذا ترتبط المحطة برفاعي نفسه ،أما شارع سعد زغلول فيرتبط بالكنيسة وصهر رفاعي الحارس(عبد المقصود) والمدرسة تدور حكايتها حول صلاح رفاعي كما تدور حكاية السينما بسلوى صلاح رفاعي وأمها سعاد وسيد ورجب رفاعي ،وفى قسم الشرطة نجد الصراع بين حسام رجب رفاعي وابن أخته ناصر مع الرائد فتحي الجزار ،فى حين يعد قصر الثقافة مسرحا لحكاية عبد الرحمن حمدي رفاعي ،ويأتي ارتباط أفراد العائلة بهذه الأماكن معبرا عن تحولات المكان تاريخيا من الجد إلى الأبناء والأحفاد ،فسيرته مرتبطة بهم.
- الكل مروا من هنا: التحول السياسي والاجتماعي
تحولات المكان تنطبع على الشخصيات فتقدم عمليات تغيرهم عبر أحداث مهمة مر بها المكان ،فتبدو المدينة بوصفها منطقة عبور تمر عبره لا الشخصيات السياسية والدينية فقط بل ما تمثله من حركات وتيارات سياسية لم تكن لتغير مدينة سنورس فقط بل الوطن كله ،وكأن الرواية تحاول موقعة المدينة على خارطة الوطن عبر التمثيلات السياسية.
تبدأ الرواية من حدث محوري فى تاريخ المدينة ببناء محطة القطار حيث تبدأ عمليات ربطها بكافة المحافظات وكأن المدينة تبدأ مع بناء المحطة فى تكوين هويتها وهوية أهلها ،فاللوحة المكتوب عليها اسم المدينة تحقق لأهلها وجودا وانتماء للمكان ف"كلما مر أحد من أهل البلدة أحس بالشغف لتلمس تلك الحروف السوداء الكبيرة حتى أن مصور البلدة حرص على التقاط الصور للناس بجانب تلك اللوحة"#2
وأول مشهد فى الرواية يمثل البؤرة المركزية لبداية صوغ التمثيلات السياسية التي تتصادى معها الرواية ،فأول من دخلها من تيارات يتمثل فى الحركات الدينية والجماعات السياسية ،وكأن دخول المدينة فتحا جديدا لها ،" لقد دخل الاسلام أرضا جديدة هكذا هتف الشيخ حسن البنا بكل قوته..والقطار يبدأ فى التباطؤ من أجل الوصول"#3
ولم تكن زيارة الشيخ للمدينة سوى أول زيارة له من أجل الدعوة لفكر الجماعة خارج منشئها الأول فى الإسماعيلية ، وكأن المدينة فى حداثة تكوينها الجديد ترتبط على نحو متزامن بتاريخ الجماعة الناشئة والصاعدة على مسرح الأحداث "فقد قرر الشيخ بعد أن قام بتأسيس شعبة الإخوان المسلمين بالإسماعيلية بأن يبدأ رحلات السفر للصعيد لكنه غير رأيه فى آخر لحظة حين عرف أن القطار سيدخل لأول مرة بلدة تسمى سنورس ..فاعتبر الشيخ أن هذا فأل حسن حيث ستكون رحلة القطار الأولى هي نفسها رحلته الأولى" #4
ومع نزول الشيخ إلى المدينة نرى بداية دعوته للناس فى الشوارع والمحلات ولكنه فى النهاية يغادر المدينة بعد أن كون مجموعة من الأتباع والمريدين ،وظل يتواصل معهم ،وتأتي عملية قتله مؤشرا داخل الرواية لتحول جديد مع مار آخر على المدينة يحمل معه فكر جماعة أخر مولدة من الأولى ،لقد وقف رفاعي الصعيدي منتظرا عودة الشيخ حسن مرة ثانية ولكن الآتي هذه المرة كان شخصا آخر
"فحينما نزل الرجل كانت ملامحه مختلفة بل كان ضريرا يسحبه أحد الرجال ..وحتى الأتباع كأنهم ليسوا من أهل البلدة بذقونهم الكثيفة وقلوبهم القاسية حتى أنهم منعوا رفاعي من أن يسأل الرجل عن الشيخ حسن وسمعهم رفاعي يهتفون بضراوة:إسلامية..إسلامية .وسمع أحدهم يهمس مشيرا للشيخ الضرير ،الدكتور عمر عبد الرحمن"#5
وينعكس فكرة الجماعة الجديدة على المكان عبر العديد من مظاهر العنف التي بدأت تشهدها المدينة،ولم تكن عائلة(رفاعي) بمنأى عنها ،فقد انخرط حسام حفيده فيها ،ودارت بينه وبين الرائد فتحي الجزار العديد من المعارك بين كر وفر، وانتهت بشنق حسام للجزار في قسم الشرطة بعد أن ظل مصرا على الانتقام لتعذيبه ،ونال حسان المصير نفسه بعد أن حاصرت قوات الأمن بيته وألجأته إلى قسم الشرطة فارا فقتلته عجلات السيارات وأرجل الخيول المهرولة ،وهو المصير نفسه الذي دفعه ناصر ابن أخته الذي تزوج ابنة نبيل وليم المسيحي بناء على فتوى الدكتور عمر فاعتقلته الشرطة واختفي ،فمات والده عبد المقصود حارس الكنيسة كمدا عليه.
بل لم يكن بيت العائلة نفسه بمنأى عن القتل الرمزي بسبب سيادة أجواء العنف فقد انتهي إلى الهدم والتخريب أثناء القبض على حسام فدفعت أسرته الثمن من خلال انتقالها إلى بيت آخر.
وإلى جانب تحولات الجماعات الإسلامية وانعكاساتها على المدينة نجد انعكاس التحولات السياسية أيضا ،فالرواية تدور تاريخيا فى الفترة من نهاية الملكية وحتى مقتل الرئيس السادات ،فقد تعلق صلاح رفاعي بالمد الناصري منذ أن افتتح عبد الناصر أول مدرسة ثانوية في البلدة ومنذ قيام الثورة وزاد الوله فتحول صلاح إلى مجنون يجوب بيوت سنورس ويدقها بابا بابا معلنا عن قيام حركة الضباط ،ومع مرور الوقت تحول صلاح الغير متعلم إلى رجالها فقد عينه الرئيس فى المدرسة دون مؤهلات فقد كان يكفى هذا الولاء للثورة وفى ظل هذا الوضع نجد صلاح قد حول المدرسة إلى إقطاعية خاصة به ينام داخلها ويزرع حديقتها لنفسه.
لقد مرت على المدينة العديد من الأفكار والشخصيات وأهل المحافظات الأخرى ففي أثناء العدوان تحولت المدرسة إلى مسكن للمهجرين من محافظات القناة، بل بيت الثقافة حضر أول اجتماع فيه الدكتور طه حسين ،وهكذا أصبح كل مكان فى المدينة لهتاريخه الخاص ويرتبط بالتمثيلات السياسية والاجتماعية العامة للوطن.
- البناء الدائري: المكان والموت
تعددت حكايات الشخصيات مع الأماكن فأصبح المكان دالا على جدلية الحياة والموت، فبداية الشخصية ترتبط به ومصيرها ينتهي عنده ، فغلبت على الحكايات البناء الدائري للسرد تبدأ كل حكاية من نقطة معينة فى حياة الشخصية المحورية فى الحكاية وتنتهي بمآله داخل المكان، هكذا انتهى رفاعي الجد فى المحطة حين بدأت عملية هدمها فوجدوه جثة عند جرس المحطة الذي لم يعد لأحد الرغبة فى سماع دقاته ،وينتهي صلاح فى المدرسة التي شهدت صعوده على الأحداث حيث شنق نفسه" فى نفس مكان إلقاء جمال لخطبته الأولى والأخيرة بسنورس" #6
وحتى الموت الرمزي يحاصر عبد الرحمن فقد ابتعد عن قصر الثقافة بعد فصله من النادي وعاد إلى المدينة ليجاهد لمعرفة بيت عائلته الجديد ،فلم يتعرف عليه وكأن المكان لفظه بعيدا فلم تعد تعرفه مدينته.
ويتحول الموت فى ارتباطه بالمكان على موت عجائبي وخيالي ،فعبد المقصود الذي حاصرته ظلال ال؟اشباح منذ أن رأى قتيلا فى الشارع ظل الموت يتهادى إليه فى ظلال تيمة (العنزة التي بأرجل حمار) وهي تيمة شعبية تدل على التفسير الشعبي لعالم الجن ،ولكن هذه التيمة تلتحم بموته حين نجده لا يشعر بموته فيرى نفسه مغسلا ثم مارا على الكنيسة لتدق له الأجراس فى الشارع الذي حرس فيه لسنوات كنيسة البلدة، فاستسلم لموته دون احتجاج مثلما كانت ترغب زوجته فى حادذ اعتقال ابنه ناصر " استسلم لمن يرقدون ويفكون أربطته ..تركهم يكملون همسهم وحاول التشاغل بالتلفت فى المكان ..أحس باحتكاك قدميه بشيء ما تنهد بيأس واستسلم ..عنزة بأرجل حمار، واستجمع قوته ونظر ناحيتها لم يجد شيئا واختفى ناصر والرجل الغريب وكل الأصدقاء بعيدا عنه ..وظل عبد المقصود وحيدا فى ذلك المكان المظلم البارد" # 7
ولا يختلف موت سلوى عن هذا الموت العجائبي ،فقد انتهت فى المكان الذي أحبته وجابت بخيالها فيما وراءه من تمثيلات بصرية وهمية، فتوحدت مع الشاشة وغابت داخل الأفلام فى مشهدلا يخلو من تكنيك سينمائي أعطت فيه ظهرها للمتفرجين ووقفت تقطع طريق الأشعة " ووجهها للشاشة بشخوصها وعالمها ودخلت سلوى الفيلم"#8
تاريخ المدينة وأماكنها على هذا النحو أصبح جزءا من هوية الشخصيات يلعب دورا فى بروزهم وتشكيل وعيهم ،لكن عدم القدرة على مواجهة تحولاته يؤدى فى النهاية إلى الموت.
هوامش الدراسة :
#1 خيرى دومة :تداخل الأنواع فى القصة المصرية القصيرة ص 267
# 2 أشرف نصر :من حكايات سنورس سلسلة إبداعات ،الهيئة العامة لقصور الثقافة ،د.ت،ص 7
#3 السابق نفسها
#4 السابق ص9
#5 السابق ص 19
#6 السابق ص 37
# 7 السابق ص 32
# 8 السابق ص 60
* من دراسة: تمثيلات المكان : د.محمد مصطفى علي حسانين (قدمت ضمن أبحاث مؤتمر ثقافة المكان) عقد بالفيوم 2010

دراسات نقدية 2


قراءة في المجموعة القصصية : صوت الكمان


المشهد البصري في قصص أشرف نصر

الروائي والناقد: سيد الوكيل*

تقدم مجموعة (صوت الكمان) نموذجا جيدا لكاتب موهوب يبدأ تجاربه الأولى فكدأب الكتابات الأولى يسعى كتابها –عادة- إلى الاستفادة دفعة واحدة من كل الإمكانات المتاحة له في محاولة لتثبيت وجوده على المشهد الأدبي سريعا وهو في غمار ذلك يميل إلى استخدام طرائق متعددة للسرد وهو أمر يبدو ميزة للكشف عن قدراته المتعددة ولكنه من جانب آخر يحرمه من فرصة الوقوف على خصائصه المميزة سواء في اختياره لطرائق التعبير أو في اختيار عوالمه القصصية ومن ثم فإن التجارب التالية تبشر بنضج كبير وعمق فني واكتشاف لمناطق تميزه.

ورغم ذلك يمكن القول وبكثير من الثقة إن تجربة (أشرف نصر) الأولى تؤسس بوعي باكر لهذا النضج ولاسيما في القسم الأول من المجموعة حيث تقسم المجموعة إلى أربعة أقسام لا يضع لأي منها عنوانا رئيسا مما يوحي بعدم رغبته في الفصل التام بينها غير أن قراءة مدققة لقصص كل قسم تكشف عن وعيه بضرورة المييز بينها وحيث يقوم هذا التمايز على اعتبارات شكلانية أسلوبية في أغلب الأحيان بحيث يمكن للقارئ اكتشاف التمايز الشكلي لقصص القسم الثاني بمجرد النظرة الأولي لكن قصص القسم الأول تبدو لي بمثابة الأفق الأكثر اتساعا لاحتواء إمكاناته الفنية فمثلا في قصة (فصول) من القسم الأول نجده يصغي جيدا للتداعيات الزمنية في العنوان ومن ثم يقوم بتقسيم القصة إلى أربعة أجزاء( خريف- صيف- ربيع- شتاء) وهكذا يجئ التقسيم مبررا فنيا، على عكس ما نجد في قصة الفقيد –مثلا- من قصص القسم الثاني حيث التقسيم مجرد حيلة شكلية تجهد القارئ بلا مبرر.

وفي قصة (فصول) يجئ التقسيم دون اعتداد كبير للترتيب الزمني للفصول مما يكشف عن رغبة في مشاكسة الزمن وكسر تتابعه وإذا كانت هذه القصة تقوم على المفارقة التي تأتي في نهاية النص إلا أنها أيضا مفارقات فنية نابعة من الحدث الذي يعطيها عمقا دراميا لا نجده-أيضا- في المفارقات المباشرة التي في القسم الثاني من أقسام المجموعة.

وثمة عامل مشترك آخر بين (فصول) من قصص القسم الأول وبين قصص القسم الثاني غير التقسيم والمفارقة وهذا العامل هو تقليص مساحات السرد إلى أقصى حد ممكن لكنه في (فصول) يعثر عن كثافة واحتشاد فيما يكون في قصة (تنويعات غربة) من القسم الثاني مجرد إشارات تلغرافية سريعة تحقق الاختزال لا الكثافة أما الحوار الذي يكون عنصرا من عناصر السرد المتميز في قصص القسم الأول فإنه يتحول إلى مجرد حيلة ساذجة في قصة مثل (تنويعات غربة) من قصص القسم الثاني وهذا نموذج مفترض أنه مكتمل ودال بذاته لكنه لا يزيد عن مجرد نكتة

- الو -الو

- هل تسمعني؟

- نعم.

-إذن إلى اللقاء.

بوسع أحدنا أن يتساءل عن التأويل هنا ليعطي المعني قيمة ما ولكننا في القص لا نتحدث عن تأويل الأفكار بقدر ما نفسر الحياة نفسها.

ربما هذه مقدمة ضرورية من ناحيتنا للتأكيد على أن قصص القسم الأول هي الأكثر اكتمالا وفنية ومن ثم يمكنها أن تحمل في طياتها الخصائص المميزة للقاص ولا يمنع هذا أن قصصا كثيرة في الأقسام الأخرى على مستوى طيب من الجمال الفني.

إن قصص القسم الأول وحدها تكفي للتأكيد على موهبة القاص وإمكاناته المتعددة التي أسرف في استعراضها في قصص القسم الثاني والثالث ،

وقصة ( بيت صغير يطل على شوارع عديدة) أول قصص القسم الأول تكشف لنا عن الإمكانات الأكثر نضجا وتميزا عند أشرف نصر وهي ذلك الوعي البصري بالعالم حوله والذي يمكنه من إثبات قدراته على فتح آفاق للسرد الفني بعيدا عن حاكمية الحدث أو بعيدا عن الشخصية وحضورها المهمين على الحدث.

الحدث والشخصية هما أكثر مقومات الفن القصصي تداولا وقليل جدا هم الكتاب الذين يمكنهم إقامة بناء قصصي بعيدا عن حاكمية الحدث والشخصية ويبدو السرد المشهدى هو أحد اتجاهات القص الحديث باعتباره أحد تجليات الإدراك الحسي ويعول عليه في تحرير النص من الذهنية التجريدية والاستعراض الثقافي وحيث يكون السرد –بعيدا عنهما- أكثر شخصانية والتصاقا بالواقع المعيش ويقترب من مفهوم السيرة الذاتية أكثر منه توليفا واختراعا.

وكتابات على هذا النحو من الرغبة في ملاقاة الواقع اليومي تنظر إلى الذات بوصفها مكونا خاصا ومتفردا وهو بذلك لا يتكون من كليات أو مركزيات ثقافية متداولة أو مكررة بقدر ما في دقائق ونثارات تتميز بنوع من الخبرات الشخصية والمزاج النفسي.

إنها ذات تبدأ بالممارسات اليومية والمصادفات الطارئة والخبرات الصغيرة والحسية لتنتهي إلى المعرفة الشخصية وهى في أثناء ذلك يمكنها أن تهضم تاريخية الاشياء لتصبح جزءا من مكوناتها شريطة أن يكون حيا وفاعلا فيها على نحو ما.

إن الوعي البصري الذي يتم تنميته عبر وسائط الاتصال المعرفي الحديث كالسينما والتلفزيون واقتران ذلك بشكل المجتمع المدني الحديث الذي لم يعد يقوم على مجموعة من المعارف الأولية يمكن إدراكها بالحدس المباشر أو إدراجها داخل أطر معرفية صريحة إنما تحتاج لكثرة تنوعها وتشابكها على اختبارها عبر التجربة الحية والممارسة أكثر من الحلم بها وهو أمر لا يوفر للشخصية رؤية واضحة عبر منظور كلى أو عميق وإنما يقف عند حد السطح منها هذا السطح العاكس الذي يمكن استقباله عبر الحواس.

وهذا النسيج الاجتماعي الأكثر تعقيدا يبدو حاضرا في وعي (أشرف نصر) منذ القصة الأولى ولكنه يعبر عنه بشكل مباشر في قصة (القصة) من قصص القسم الرابع وكأنه يبعث لنا برسالة من خلالها تعكس أرقه لأن الفن القصصي لم يعد قادرا على فك الاشتباك أو الإحاطة بالتعدد الذي يفعم الواقع حوله وهكذا فالقصة نفسها تتحول إلى أمنية لا تتحقق غالبا وطموح لا يصل لغايته ومن ثم يبدأ قصته بجملة دالة هي ( سأكتب قصة ليس لها مثيل) ومن الطريف أنه لم يحدد مواصفات القصة التي يتمني كتابتها ولكنه على العكس يقدم قائمة من المرفوضات التي لا يتمني أن يجدها في قصته والتي يتصور أنها غير جديرة بتحقيق (القصة) الأمنية وسوف يدهشنا أن كشف المرفوضات يعج بالكثير من المقومات والتيمات القصصية المعروفة يقول

( لن أكتب أسطورة أو احكي عن ليالي ألف ليلة ولن أبحث فيما وراء الطبيعة ،لن أسخر ولن أكون جافا لن أدخل الفلاش باك أو استعين بالتناص لن أضع العناوين الجانبية لن أضع الأرقام...إلخ).

وسوف نلاحظ أن قائمة المفردات هذه والتي تكشف عن وعيه ورغبته في تجاوز الحيل والأنماط المألوفة للقص نجد الكثير منها في قصصه أي أنه يدرك حجم المفارقة الحادة بين معطيات التاريخ الأدبي وطموح القاص الجديد ابن واقع يتغير بين يوم وليلة تغيرا مذهلا هذا التغير الذي يزيد من حجم المسافة الفارقة بين الوعي والواقع.

إن (أشرف نصر) يبدو شديد الوعي بأزمة الفرد في مواجهة المجتمع المدني بتعقده وتعدد وتسارع متغيراته ومن ثم فهو يجد بدا من البحث عن وعي جديد يمكنه قراءة الواقع على قدر أكثر تحقيقا للطموح وهكذا يبدو الحدس والمعارف الذهنية والفلسفية والمسلمات الأيدلوجية والثوابت المتوارثة تصبح كلها وسائط مشكوك في قدرتها وقيمتها وتصبح التجارب الشخصية والخبرات الحية والذاكرة الفردية والممارسات الحسية بديلا مقترحا.

ففي عصر إنتاج المعرفة يصبح الوعي بالواقع متجاوزا لمعطيات وإمكاناته ..إنها صورة أخرى من صور الحلم تختلف تماما عن أحلام النوم أو أحلام اليقظة التي يعول عليها فرويد باعتبارها مرجعيات للاوعى إن أحلام اليوم تنطلق-على العكس – من وعي حاد بطبيعة التركيبة المتناقضة بين المعرفة بالواقع والرغبة في تجاوزه والمحصلة أننا لا نحقق هذا التجاوز للواقع إلا عن طريق خلق واقع بديل واقع وهمي(سيمولوجيي) ثم تحطيمه مثلما يحدث في ألعاب الفيديو جيم.

ففي قصة( بيت صغير يطل على شوارع عديدة) يعكس العنوان نفس القلق تجاه الإمكانات المحدودة في مواجهة الواقع الفسيح المتجدد ،فالبيت على الرغم من صغره وقدمه يظل لافتا للإنتباه ومثيرا للجدل على الرغم من أنه يبدو فاقد الاتصال بالواقع من حوله وغير آبه بالشوارع العديدة والبنايات والمحال الجديدة مما يجعله مثيرا للسخرية والطمع فيه.

إن البيت الصغير القديم يقف هكذا بمثابة معطي تاريخي لم يعد مقنعا لأحد سوى مجموعة من العجائز الذين يثرثرون قصصا عن حياة قديمة كانت هنا،في حين أنه الآن (لا تبدو علية مظاهر حياة) وفي حين يتحرك الواقع من حوله (وقد امتلأت بالمكاتب والمحلات الكبيرة وبدأت تدخلها صالات البلياردو وألعاب الفيديو جيم) .

والسخرية من البيت القديم لا تعني على الإطلاق الإعجاب بالواقع المتغير حوله ولا يعني أن كلا منهما نقيض للآخر فالواقع حول البيت لا يعكس تطورا حضاريا حقيقيا بقدر ما يعكس زيفا مدنيا لا يقل إحباطه لنا عن البيت القديم أنه واقع وهمي مثل ألعاب الفيديو جيم أو هو في الحقيقة صورة عن الواقع وبين جمود البيت الصغير وتآكله وبين تمدد الواقع الوهي تقع الذات الساردة ويبرز هذا النزوع المأسوي في القصة.

ولكننا لا نرى هذا الموقف المأساوي الذي وجدناه عند أحمد طوسون* ذلك المقترن بتحنان إلى القديم هروبا من زيف الواقع الجديد بل سنجده موقفا مأساويا ينعى ذاته التي لم تعد ترى في القديم قيمة ولا في الجديد بديلا ومن ثم فهو يقابل هذا القدم بنوع من الاستهانة والتساؤل عن جدواه والتفكير في هدمه تماما لكن شيئا غامضا يجعل البعض متمسكا بضرورة وجوده ويجعلهم ينسجون حوله الأساطير والحكايات التي يقوم عليها شاهد حي غير بائع الجرائد العجوز الذي يحكى عن صديقه الذي استشهد ولده ثم دفنه في البيت وبإنتاج المعرفة حول البيت نتجاوز واقعه البائس ،أن بائع الجرائد هنا يمثل الذاكرة الجمعية لكن الراوي ليست له نفس الذاكرة وليست له نفس الخبرة الحية إنه ذات متفردة لها وسائلها الخاصة في المعرفة ومن ثم فهو ينظر إلى الحكاية كلها باستهانة ولا يجد فيها ما يخصه لأن الذات هنا هي مرتكز فردي لا تحفل بالواقع حولها لأنه موزع بين قديم متداع وجديد زائف أن هذا البيت الذي يقف وحيدا بلا مستقبل يبدو منقطع الصلة مما حوله من مظاهر التعدد والاشتباك من شوارع عديدة وهو بذلك يختلف عن بيت أحمد طوسون المفعم بالحميمية والدفء ،

إن بيت أشرف نصر لا أمل فيه فيما يظل بيت طوسون قادرا على تصحيح مسار الراوية ومنحه السلام الداخلي، وهذه المفارقة تعكس طبيعة الوعي عند كل منهما.

وإذا كانت قصة( بيت صغير يطل على شوارع عديدة) تبرز الوعي البصري والمشهدي الموهم بالواقع(التخييلى) فإنه قصة (أناس عربة الشتاء) تبرز التقنيات الفنية والأسلوبية التي تسهم في إنتاج هذا الواقع التخييلى ومن ثم سنجد حضورا لتقنيات إنتاج الصورة السينمائية حيث يبرز المكان (كبلاتوه) كمسرح للأحداث لحركة الشخصيات مع التحفظ على مصطلح (الأحداث) هنا فنحن لا نجد حدثا بالمعني التقليدي ،فقط مجرد مثير، والمكان نفسه هو المثير لحركة الشخصيات،وبالتالي فإن حركتها محدودة بالمكان نفسه ومن إنتاجه أي أنها ليست حركة حرة بل مقيدة بإمكانات البلاتوه والاكسسوارات وزمن المشهد (ليلى).

إننا نشهد –مثلا- في سياق البلاتوه لقطات سريعة متتابعة من زوايا مختلفة يمثل كل منها "كادرا"صغيرا توضع في نسق كلى يؤلف المشهد وينتج الدلالة وتكشف-أيضا- عن الطبيعة الجسدية والنفسية للشخوص ،عجوز قلقة طفل منكمش شاب عابث فتاة راغبة رجل متجهم سائق ضجر.

وسف نكتشف أبعاد الشخصيات بلمسات سريعة ومقتضبة من خلال الإيماءات والحركات غير المكتملة والمحدودة بحدود المكان ومن خلال كلمات قليلة عابرة تملأ فراغا تتركه الصورة وسنلحظ إن الشخصيات لا تسعى إلى إقامة علاقات مكتملة مع بعضها فهي على وعى طوال الوقت بالطبيعة المؤقتة للمكان ومن ثم أشكال التواصل بين شخصيات المكان مصطنعة ولذلك فهي لا تأخذ شكل الحوارات بقدر ما هيتعليقات بلا رصيد عند قائلها ( هو السواق مستعجل ليه) (يا عم شغل نار يا حبيبي نار)

أما أشكال التواصل الأخرى فتبدو بمعزل عن القصدية كأن تتم تتم عبر تداخل ظلال الشخصيات تحت المصباح الشحيح أو حلقات بخار الماء المتصاعدة من الأفواه أو الإنصات بدرجات متفاوتة إلى أغنية من كاسيت السيارة.

وعلى الغرم من خلو النص تماما من أي بعد (فانتازى) إلا أن المكان الضيق جدا والحركة المحدودة والإضاءة الشحيحة والليل والبرد وصوت المطر في الخارج أضفت على المشهد كله إحساسا كابوسيا وكأنه واحد من أفلام (هيتشكوك).

وفى ظني أن هذه واحدة من القصص القليلة التي لا ينساها القارئ حتى لو فقد تفاصيلها.

ويحقق (أشرف) نجاحا كبيرا في التعامل مع بدايات القصص ونهاياتها يكشف عن واحدة من إمكاناته الجيدة وفي تصوري- كقاص- إن البدايات هي التي تحدد علاقة المبدع بالنص وتؤسس لجمالياته فيما تكون النهايات هي الأبواب المغلقة باتساع والتي تحدد وجود النص بشكل مستقل عن صاحبه بحيث يبدأ النص بعدها دخوله في سياق جمالي ومعرفي متداول أي أن النص ينتهي باستنفاد معطياته الجمالية ،ليس بالضرورة أن تكون النهايات في السطور الأخيرة للنص ولكنها في اللحظة التي يبدأ بإجابة على سؤال يمكننا تخمينه بسهولة ،الإجابة تقول (متضايق علشان الدنيا برد) وتأتي على لسان شاب يضطر بدافع من الخجل أن يدفع فتاة معوقة على كرسي متحرك في طريقها إلى العمل ولابد أن السؤال الذي على القارئ أن يخمنه سيكون من الفتاة المعاقة ويعنى إن كان الشاب يجد مهمة دفع كرسي متحرك عبئا يسبب له الضيق؟

إن الإعاقة الجسدية التي تعانيها الفتاة تقابلها إعاقة نفسية لدى الشاب تضع حاجزا من (الغيوم) بينه وبين العالم.

والقصة بعد ذلك لا تزيد عن كونها تجسيدا لهذه العلاقة المتعاكسة المعاقة بكل صور الإعاقة ومن ثم فنحن لا نتوقع التواصل في النهاية حيث يفترقان والحال كما هو عليه ،ليس ثمة حدث ينمو أو يتطور فالقصة تبدأ وتنتهي في السطر الأول عندما يقول الشاب (متضايق علشان الدنيا برد) وترد الفتاة ( عادى )

سيبدو أن القصة حسمت على هذا النحو ..الإعاقة الجسدية لا تمنع الفتاة من التواصل والتصالح مع العالم والرضا به على نحو ما هو قائم فهذا البرد الذي تراه (عادى) يصبح عائقا نفسيا في نظر الشاب ،أن لحظة النهاية الدرامية في هذه القصة تكمن في ذلك الحوار المقتضب (متضايق-عادى) أما كيف تحقق هذا جماليا فذلك هو السؤال الأولى بالإجابة والذي يكشف عن إمكانات الكاتب الموهوب وقدرته على الإنصات الدقيق للحالات الإنسانية والأفكار واللحظات التي يكتبها.

صحيح أن القاص جعل كلا من الشاب والفتاة نقضيا شارحا للآخر ولكنه لا ينزلق إلى فخ المفارقة والنمذجة فالشخصيات هنا ليست مصنعة خصيصا لتجسيد الفكرة ،إنها شخصيات مفعمة بالحياة ،بالتفاصيل الصغيرة والممارسات الإنسانية البسيطة فالبنت مثلا تشترى الجرائد اليومية وتتابع أفلام التلفزيون وتتوقف لمصافحة عابرة في الطريق أو تعلق على أحداث العمل وهو في المقابل يرى رجل المرور يتثاءب وأطفال المدارس يتحركون بثبات وكسل يرقد على عيونهم ،سائقو السيارات لا يستخدمون آلات التنبيه والأغاني خافتة وكأن العالم يتحرك من وراء حائط زجاجي نشاهده ولا نشارك فيه ،إن هذا الحائط غير المنظور والمسكوت عنه في النص يجسد الإعاقة تجسيدا كاملا ،ومن خلفه يبدو كل شيء معاقا ،الشاب والفتاة وحتى تلاميذ المدارس يتحركون بثبات كما لو كانوا فوق كراسي متحركة ،إن هذه الحركة هكذا مصنوعة ووهمية فلا شيء يمتلك إرادته ،كل شيء مدفوع بآلية مقننة ليصنع عالما كاملا من المعاقين حتى الفتاة التي حاولت تجاوز واقعها المعاق لتخلف واقعا آخر يوهم بالحركة والتواصل تكتشف فى النهاية أنها مجرد جزء من عالم معاق ، وإنها مدفوعة بآلية نحو الإعاقة قسرا إن بارقة التحرر الوحيدة التي تلوح في النص تأتي عندما تطلب الفتاة من الشاب أن يتركها ،س وسنرى الشاب في نهاية المشهد يقوم بفعل إرادي بسيط وهو يضرب حصى الطريق بقدمه.

إن نصوص (أشرف) قصيرة جدا لكنها محتشدة بالعلامات الفنية التي تجعل منها أفقا فسيحا من الجمال،وهكذا يصعب تماما الوقوف بمثل هذه الدقة عند كل النصوص وسنكتفي بما طرحنا للتأكيد على موهبة (أشرف نصر) في أول أعماله .

* الدراسة بعنوان قراءة في القصص الأولى (سيد الوكيل) –تناولت أعمال ثلاثة من أدباء الفيوم- قدمت ضمن أبحاث المؤتمر العام لأدباء مصر – ونشرت ضمن مطبوعات المؤتمر في كتاب: الإبداع في الفيوم - 2001

http://ashrafnasr.blogspot.com/

Jul 19, 2010

دراسات نقدية


قصة "صورة" وقراءة نقدية لها

صـــورة

قصة: أشرف نصر

أوضاع :

-1-

ارفع رأسك .. ليس هكذا .. اخفضها قليلاً .. انظر إلى .. ابتسم . كلا افتح قليلاً أشدد قامتك .. لا تقم .. انزل .. لا لا تنزل على الأرض .. عندي كثيرون غيرك .. استدر قليلاً .. يا سيدي أرجوك .. ارفع رأسك .. ابتسم .. افرد قامتك .. استدر قليلاً

-2-

انظر إلى هذه العصافير .. أليست جميلة .. لم تبكى .. سأطلقها لو جلست .. استرخ .. لا تنم .. أرخ وجهك وافرد قامتك تذكر العصافير.. والآن استدر قليلاً.. حسناً لِم تمد فمك هكذا ؟.. يا سيدي لن تكلمك العصافير .. لم تبكى .. اهدأ أرجوك

فلاش :

ـ لقد حاول معه المصور كثيراً وفشل .

ـ ...........

ـ اهدئي .. أدرك أن سفره بحجة العلاج .

ـ ...................

ـ سأجبره على الصورة بأي ثمن .

ـ ...............

ـ نعم سنتفرغ بعد سفره لكل ما ترغبين .

لقطة :

ساعدني .. أدره .. تماماً .. ارفع رأسه .. انزل بها قليلاً .. حسناً .. اشدد قامته .. تماماً ... اجعله يبتسم .. امسح دموعه .. أحسنت .. دعه لحظة .. اللعنة .. أرأيت .. أفسد كل شيء .. حاول مرة أخرى .. حاول .. نعم .. حسناً .. تماماً .. آه .. هذه هي المرة الثامنة .. ما إن تتركه حتى يرجع كما كان .. دعنى ساعة .. سأفكر في حل أخير .

تحميض :

أقر أنا ( ..... ) على موافقتي على ما يفعل المصور .. وكل ما نفعل فهو لعلاجه .. حاولنا مرات كثيرة .. فشلنا في التقاط صورة واحدة .. لذلك .. قمت بإمساك رأسه ورفعتها .. شددت قامته .. جعلته يبتسم ..جاء المصور.. قطع رأسه .. كانت جميلة .

توقيع المخلص البار

( ................... )

أبنية للاختيار**

د.مجدي أحمد توفيق

تنقسم قصة "صورة" لأشرف نصر إلى أربعة أقسام لكل قسم من أقسامه عنوان يخصه وعنواناتها "أوضاع" "فلاش""لقطة""تحميض" وهى عنوانات متصلة اتصالا تاما بعنوان القصة فى مجملها "صورة" مشتقة كلها من لغة مصوري الكاميرا لتركز على حدث واحد هو مدار القصة ومحورها فى إيجاز هناك شخص يراد التقاط صورة له ولكن هذا الامر العادي السهل يجد صعوبة بالغة في إكماله داخل القصة .

تنقسم "أوضاع " إلى فقرتين أو لنقل جزئيتين تمثل أوضاعا للتصوير تبدأ القصة في الفقرة الأولي هكذا

ارفع رأسك .. ليس هكذا .. اخفضها قليلاً .. انظر إلى .. ابتسم . كلا افتح قليلاً أشدد قامتك .. لا تقم .. انزل .. لا لا تنزل على الأرض .. عندي كثيرون غيرك .. استدر قليلاً .. يا سيدي أرجوك .. ارفع رأسك .. ابتسم .. افرد قامتك .. استدر قليلاً"

الفقرة السابقة مستندة إلى المتكلم الذي هو في "أوضاع"بفقرتيه المصور نفسه

أما الشخص الذي يتعرض للتصوير فهو المخاطب وتقديمه منذ البداية بوصفه المخاطب يعطي القارئ شعورا قويا بحضوره كأنه مرئي بالعين للقارئ أو كأنه جالس حقا أمامه كذلك فإن تقديمه بوصفه المخاطب يسمح للقارئ أو لمجتمع المتلقين يعزز هذا الفرض ابتداء القصة بحملة شهيرة هي "ارفع رأسك" التي تعني عند الناس الدعوة إلى العزة والكرامة والإباء ولربما نجد هنا مدخلا لالتقاء قصة حمدي أبو جليل* مع قصة أشرف نصر على تقدير أن القصتين تنطويان على رغبة في العزة أو دعوة إلى الوقوف والصلابة وإزاحة المهانة بعيدا

صحيح أن الأفعال الآمرة التالية في الفقرة تُضعف المعني والمفترض في "ارفع رأسك" على رأسي الفقرة وفي مطلعها يسمح لمعني الكرامة بأن يرتفع في خلفية القراءة بل إن المشهد نفسه: أعني مشهد تصحيح وضع شخص يراد تصويره يظل قابلا لأن يتأوله القارئ بوصفه محاولة لتصحيح الأوضاع

على ما يحتمله هذا التعبير من دلالة إصلاحية لا تبعد كثيرا عن دلالة "ارفع رأسك" التي تبادر إلى الأذهان عند سماعها.

من الواضح أن استخدام أسلوب الخطاب فضلا عما فيه من حيوية ومن كسر للأنماط التقليدية للسرد يورط القارئ في الحدث ويعلق عليه وظائف تحليلية تأملية ضرورية لإدراك تحولات السرد من قسم إلى قسم ودلالات تلك التحولات.

أما الفقرة التالية من"أوضاع" فهي تواصل الخطاب نفسه على لسان المصور موجها إلى من يراد تصويره ولكنه في الفقرة الثانية يستعين على توجيهه بالعصافير.يدعوه إلى أن ينظر إليها ليضبطه له اتجاهه ووضعه :

"انظر إلى هذه العصافير .. أليست جميلة .. لم تبكى .. سأطلقها لو جلست .. استرخ.."

ما معني بكائه؟ الأمر يحتمل أنه طفل أو معاق ذهنيا أو رمز رومانتيكي أو أن البكاء علامة الضعف الشديد والحزن للعجز عن الاستقامة وتصحيح الوضع.

لنقل أن القصة تريد أن تضع القارئ أو في عينيه ممكنات شتي للتأويل .كلها محتملة وكلها دالة.

يتحول القسم الثاني "فلاش" عن أسلوب الخطاب إلى أسلوب الحوار في فقرة واحدة:

" ـ لقد حاول معه المصور كثيراً وفشل .

ـ ...........

ـ اهدئي .. أدرك أن سفره بحجة العلاج .

ـ ...................

ـ سأجبره على الصورة بأي ثمن .

ـ ...............

ـ نعم سنتفرغ بعد سفره لكل ما ترغبين."

كلا لم أحذف من الفقرة وأنا أنقلها تامة .إجابات السيدة التي يمكن لنا استنتاج وجودها "اهدئي" و"ترغبين" .ولكن القصة نفسها حذفت صوتها.مثلما حذفت من قبل صوت الشخص المراد تصويره .الفقرة تستخدم بلاغة الحذف.وتجعل النقاط الموضوعة ليست علامة على حذف صوت فقط .ولكنها كذلك علامة على حذف نوايا السيدة وفكرها.حتى الآن.

وإذا كان القسم الأول مشغول بمشهد التصوير .فإن القسم الثاني :"فلاش" يخرج من مشهد التصوير ليقف خارجه ويراه من بعد قليل بعيني شخص آخر نجهله مثلما كنا نجهل المصور ولا نعرف إلا أنه مصور .

الأمر هنا أصعب لأننا لا نعرف عن المتحدث شيئا إلا كونه يتعاطف مع السيدة.ومع المصور ونستفيد من كلامه أن الشخص المراد تصويره يحتمل العلاج.

ولكن مرضه أمر غير مؤكد فقوله" سفره بحجة العلاج" يوحي بكلمة "حجة" إلى أنه قد يكون صحيحا.أو مريضا مرضا لا أمل له في العلاج حتى يصير العلاج حجة محضة للسفر . المؤكد أن هناك خطة تقضي بسفره وأن الفعل "سأجبره" والمتعلق به " بأي ثمن" يدلان على العمد والإصرار في تسفيره.ثم يأتي قوله " سنتفرغ بعد سفره لكل ما ترغبين" للإيحاء بان هناك مصلحة ما في هذا التسفير . وتفصيل ذلك كله غير معلن إلى الآن مضاف إلى الغموض مسبب للحيرة.

المؤكد أن من يراد تصويره شخص فاقد للمنطق المألوف يبكي للعصافير ويظن أنها تحدثه وان هناك سيدة حزينة تريد تسفيره لتحقق رغبات ما. وهذا كله ليس بقليل

هذا كله يحتمل عند القارئ نشاط التأويل.

القسم الثالث" لقطة" يعود إلى ضمير الخطاب في الفقرة الأولي .ولكننا لا نستطيع في يسر أن نحدد من المتكلم.فقوله" ساعدني" يحتمل أن يكون طلبا من المصور يوجهه إلى الشخص الناطق في القسم الثاني ليعينه على إصلاح وضع الشخص المراد تصويره.وهذا قول راجح.ولكنه يحتمل في الوقت نفسه أن يكون على لسان المتكلم في الفقرة الثانية المحاور للسيدة يطلب المساعدة من المصور.

وقد تقدم لإصلاح وضع الشخص المراد تصويره تحقيقا لقوله السابق" سأجبره على الصورة" ويحتمل آخر الأمر .أن يكون الخطاب على لسان السيدة تطلب العون من أحد الرجلين.

ومهما يكن الأمر فإن المراد ليس إصلاح الوضع فحسب ولكن كذلك جعله يبتسم بعد مسح دموعه وهذا أمر لا يتحقق مثلما لا يتحقق إصلاح الوضع فيعود الجسم إلى الوضع الخاطئ ما أن يتركه على حريته.

يبقى القسم الرابع :"تحميض"

" أقر أنا ( ..... ) على موافقتي على ما يفعل المصور .. وكل ما نفعل فهو لعلاجه .. حاولنا مرات كثيرة .. فشلنا في التقاط صورة واحدة .. لذلك .. قمت بإمساك رأسه ورفعتها .. شددت قامته .. جعلته يبتسم ..جاء المصور.. قطع رأسه .. كانت جميلة .

توقيع المخلص البار

( ................... ) "

( انتهى النص)

هذا الإقرار المحذوف الاسم اتساقا مع مساحات الحذف في القصة يغمض فيه المتكلم.

ففي اللحظة التي نتوقع أن يكون فيها المقر هو السيدة إذا بالمقر من الرجال على ما يستفاد من "المخلص البار" وبطبيعة الحال فإن المقر لا يحتمل إلا احتمالا واحدا .هو المصور في الإقرار معاونا للرجل .

وقد يكون هذا الإقرار دليلا على المتكلم في القسم الثاني هو الرجل في محاولة التي يقر بنتائجها في القسم الرابع إقرارا موقعا.

ومن المعلوم أن العاملين في التصوير بخاصة التصوير السينمائي يستخدمون أحيانا كلمة "cut" أي قطع للدلالة على انتهاء التصوير لذا فإن "قطع رأسه" يحتمل احتمالا غير درامي انتهاء التصوير.فإذا عددناه دراميا قطعا حقا يعد قتلا.فلنعلم أن التسفير كان على الوجوه كلها نوعا من القتل أو الخلاص من عبء الشخص لفتح الباب لإطلاق الرغبات.

ومن الملحوظ أن هذا القتل يتم بإسم الإخلاص والبر والرأس المقطوعة بدت جميلة على نحو ما.

ينطوي الخلاص من الشخص العبء :بالعلاج أو القتل على درجة من المحبة إذ يتخلص الشخص نفسه من ألمه وعبئه ومهانته وكذلك ينطوي على خلاص من آلامه ودموعه وتثبيت صورة باسمة زائفة جميلة.تجرده من إنسانيته لتجعله جميلا ووسيما طيب المحضر.

هنا نستطيع التأويل أن يرى المشهد كله أسلوبا في علاج مجتمع مريض أو متخلف أو حياة معاقة بخلق صورة إعلامية ثابتة له محلاة بالبسمة واستقامة الظهر.

القصة لا تبحث عن فضاء جديد للسرد شأن قصة حمدي أبو جليل* ولكنها تصنع أيقونتها التي تجسد رمزيا أسلوبا سائدا في علاج الواقع.

أما الجدة فإنها تنشدها في هجر الحكي المسترسل البسيط الذي استخدمه حمدي أبو جليل

وما يستتبعه من جماليات للوضوح ومن متعة الذكر.

وتقبل على جماليات الحذف والغموض معولة على نشاطات القارئ وقدرات التأويل لتخرج صورة رمزية تنبني سرديا لا على الحكى بل على تتابع الخطابات بعضها طلبي مباشر"القسم الأول والثالث" وبعضها حواري وإن يكن أحادي الصوت (القسم الثاني) وآخرها تقريري يتخذ نمط الإقرار وينشئ بهذا التتابع نصا وحدته المشهد.

مازجا بين التصوير الفوتوغرافي والتصوير السردي الأدبي مزجا رمزيا.

* القصة منشورة بمجموعة "صوت الكمان"


** جزء من دراسة بعنوان" أبنية للاختيار..قراءة في قصص من الفيوم"د.مجدي أحمد توفيق – قدمت ضمت أبحاث مؤتمر الفيوم الأدبي الثالث : القصة والرواية الآن..في مصر- عقد المؤتمر في 1997

http://ashrafnasr.blogspot.com/