Jul 19, 2010

دراسات نقدية


قصة "صورة" وقراءة نقدية لها

صـــورة

قصة: أشرف نصر

أوضاع :

-1-

ارفع رأسك .. ليس هكذا .. اخفضها قليلاً .. انظر إلى .. ابتسم . كلا افتح قليلاً أشدد قامتك .. لا تقم .. انزل .. لا لا تنزل على الأرض .. عندي كثيرون غيرك .. استدر قليلاً .. يا سيدي أرجوك .. ارفع رأسك .. ابتسم .. افرد قامتك .. استدر قليلاً

-2-

انظر إلى هذه العصافير .. أليست جميلة .. لم تبكى .. سأطلقها لو جلست .. استرخ .. لا تنم .. أرخ وجهك وافرد قامتك تذكر العصافير.. والآن استدر قليلاً.. حسناً لِم تمد فمك هكذا ؟.. يا سيدي لن تكلمك العصافير .. لم تبكى .. اهدأ أرجوك

فلاش :

ـ لقد حاول معه المصور كثيراً وفشل .

ـ ...........

ـ اهدئي .. أدرك أن سفره بحجة العلاج .

ـ ...................

ـ سأجبره على الصورة بأي ثمن .

ـ ...............

ـ نعم سنتفرغ بعد سفره لكل ما ترغبين .

لقطة :

ساعدني .. أدره .. تماماً .. ارفع رأسه .. انزل بها قليلاً .. حسناً .. اشدد قامته .. تماماً ... اجعله يبتسم .. امسح دموعه .. أحسنت .. دعه لحظة .. اللعنة .. أرأيت .. أفسد كل شيء .. حاول مرة أخرى .. حاول .. نعم .. حسناً .. تماماً .. آه .. هذه هي المرة الثامنة .. ما إن تتركه حتى يرجع كما كان .. دعنى ساعة .. سأفكر في حل أخير .

تحميض :

أقر أنا ( ..... ) على موافقتي على ما يفعل المصور .. وكل ما نفعل فهو لعلاجه .. حاولنا مرات كثيرة .. فشلنا في التقاط صورة واحدة .. لذلك .. قمت بإمساك رأسه ورفعتها .. شددت قامته .. جعلته يبتسم ..جاء المصور.. قطع رأسه .. كانت جميلة .

توقيع المخلص البار

( ................... )

أبنية للاختيار**

د.مجدي أحمد توفيق

تنقسم قصة "صورة" لأشرف نصر إلى أربعة أقسام لكل قسم من أقسامه عنوان يخصه وعنواناتها "أوضاع" "فلاش""لقطة""تحميض" وهى عنوانات متصلة اتصالا تاما بعنوان القصة فى مجملها "صورة" مشتقة كلها من لغة مصوري الكاميرا لتركز على حدث واحد هو مدار القصة ومحورها فى إيجاز هناك شخص يراد التقاط صورة له ولكن هذا الامر العادي السهل يجد صعوبة بالغة في إكماله داخل القصة .

تنقسم "أوضاع " إلى فقرتين أو لنقل جزئيتين تمثل أوضاعا للتصوير تبدأ القصة في الفقرة الأولي هكذا

ارفع رأسك .. ليس هكذا .. اخفضها قليلاً .. انظر إلى .. ابتسم . كلا افتح قليلاً أشدد قامتك .. لا تقم .. انزل .. لا لا تنزل على الأرض .. عندي كثيرون غيرك .. استدر قليلاً .. يا سيدي أرجوك .. ارفع رأسك .. ابتسم .. افرد قامتك .. استدر قليلاً"

الفقرة السابقة مستندة إلى المتكلم الذي هو في "أوضاع"بفقرتيه المصور نفسه

أما الشخص الذي يتعرض للتصوير فهو المخاطب وتقديمه منذ البداية بوصفه المخاطب يعطي القارئ شعورا قويا بحضوره كأنه مرئي بالعين للقارئ أو كأنه جالس حقا أمامه كذلك فإن تقديمه بوصفه المخاطب يسمح للقارئ أو لمجتمع المتلقين يعزز هذا الفرض ابتداء القصة بحملة شهيرة هي "ارفع رأسك" التي تعني عند الناس الدعوة إلى العزة والكرامة والإباء ولربما نجد هنا مدخلا لالتقاء قصة حمدي أبو جليل* مع قصة أشرف نصر على تقدير أن القصتين تنطويان على رغبة في العزة أو دعوة إلى الوقوف والصلابة وإزاحة المهانة بعيدا

صحيح أن الأفعال الآمرة التالية في الفقرة تُضعف المعني والمفترض في "ارفع رأسك" على رأسي الفقرة وفي مطلعها يسمح لمعني الكرامة بأن يرتفع في خلفية القراءة بل إن المشهد نفسه: أعني مشهد تصحيح وضع شخص يراد تصويره يظل قابلا لأن يتأوله القارئ بوصفه محاولة لتصحيح الأوضاع

على ما يحتمله هذا التعبير من دلالة إصلاحية لا تبعد كثيرا عن دلالة "ارفع رأسك" التي تبادر إلى الأذهان عند سماعها.

من الواضح أن استخدام أسلوب الخطاب فضلا عما فيه من حيوية ومن كسر للأنماط التقليدية للسرد يورط القارئ في الحدث ويعلق عليه وظائف تحليلية تأملية ضرورية لإدراك تحولات السرد من قسم إلى قسم ودلالات تلك التحولات.

أما الفقرة التالية من"أوضاع" فهي تواصل الخطاب نفسه على لسان المصور موجها إلى من يراد تصويره ولكنه في الفقرة الثانية يستعين على توجيهه بالعصافير.يدعوه إلى أن ينظر إليها ليضبطه له اتجاهه ووضعه :

"انظر إلى هذه العصافير .. أليست جميلة .. لم تبكى .. سأطلقها لو جلست .. استرخ.."

ما معني بكائه؟ الأمر يحتمل أنه طفل أو معاق ذهنيا أو رمز رومانتيكي أو أن البكاء علامة الضعف الشديد والحزن للعجز عن الاستقامة وتصحيح الوضع.

لنقل أن القصة تريد أن تضع القارئ أو في عينيه ممكنات شتي للتأويل .كلها محتملة وكلها دالة.

يتحول القسم الثاني "فلاش" عن أسلوب الخطاب إلى أسلوب الحوار في فقرة واحدة:

" ـ لقد حاول معه المصور كثيراً وفشل .

ـ ...........

ـ اهدئي .. أدرك أن سفره بحجة العلاج .

ـ ...................

ـ سأجبره على الصورة بأي ثمن .

ـ ...............

ـ نعم سنتفرغ بعد سفره لكل ما ترغبين."

كلا لم أحذف من الفقرة وأنا أنقلها تامة .إجابات السيدة التي يمكن لنا استنتاج وجودها "اهدئي" و"ترغبين" .ولكن القصة نفسها حذفت صوتها.مثلما حذفت من قبل صوت الشخص المراد تصويره .الفقرة تستخدم بلاغة الحذف.وتجعل النقاط الموضوعة ليست علامة على حذف صوت فقط .ولكنها كذلك علامة على حذف نوايا السيدة وفكرها.حتى الآن.

وإذا كان القسم الأول مشغول بمشهد التصوير .فإن القسم الثاني :"فلاش" يخرج من مشهد التصوير ليقف خارجه ويراه من بعد قليل بعيني شخص آخر نجهله مثلما كنا نجهل المصور ولا نعرف إلا أنه مصور .

الأمر هنا أصعب لأننا لا نعرف عن المتحدث شيئا إلا كونه يتعاطف مع السيدة.ومع المصور ونستفيد من كلامه أن الشخص المراد تصويره يحتمل العلاج.

ولكن مرضه أمر غير مؤكد فقوله" سفره بحجة العلاج" يوحي بكلمة "حجة" إلى أنه قد يكون صحيحا.أو مريضا مرضا لا أمل له في العلاج حتى يصير العلاج حجة محضة للسفر . المؤكد أن هناك خطة تقضي بسفره وأن الفعل "سأجبره" والمتعلق به " بأي ثمن" يدلان على العمد والإصرار في تسفيره.ثم يأتي قوله " سنتفرغ بعد سفره لكل ما ترغبين" للإيحاء بان هناك مصلحة ما في هذا التسفير . وتفصيل ذلك كله غير معلن إلى الآن مضاف إلى الغموض مسبب للحيرة.

المؤكد أن من يراد تصويره شخص فاقد للمنطق المألوف يبكي للعصافير ويظن أنها تحدثه وان هناك سيدة حزينة تريد تسفيره لتحقق رغبات ما. وهذا كله ليس بقليل

هذا كله يحتمل عند القارئ نشاط التأويل.

القسم الثالث" لقطة" يعود إلى ضمير الخطاب في الفقرة الأولي .ولكننا لا نستطيع في يسر أن نحدد من المتكلم.فقوله" ساعدني" يحتمل أن يكون طلبا من المصور يوجهه إلى الشخص الناطق في القسم الثاني ليعينه على إصلاح وضع الشخص المراد تصويره.وهذا قول راجح.ولكنه يحتمل في الوقت نفسه أن يكون على لسان المتكلم في الفقرة الثانية المحاور للسيدة يطلب المساعدة من المصور.

وقد تقدم لإصلاح وضع الشخص المراد تصويره تحقيقا لقوله السابق" سأجبره على الصورة" ويحتمل آخر الأمر .أن يكون الخطاب على لسان السيدة تطلب العون من أحد الرجلين.

ومهما يكن الأمر فإن المراد ليس إصلاح الوضع فحسب ولكن كذلك جعله يبتسم بعد مسح دموعه وهذا أمر لا يتحقق مثلما لا يتحقق إصلاح الوضع فيعود الجسم إلى الوضع الخاطئ ما أن يتركه على حريته.

يبقى القسم الرابع :"تحميض"

" أقر أنا ( ..... ) على موافقتي على ما يفعل المصور .. وكل ما نفعل فهو لعلاجه .. حاولنا مرات كثيرة .. فشلنا في التقاط صورة واحدة .. لذلك .. قمت بإمساك رأسه ورفعتها .. شددت قامته .. جعلته يبتسم ..جاء المصور.. قطع رأسه .. كانت جميلة .

توقيع المخلص البار

( ................... ) "

( انتهى النص)

هذا الإقرار المحذوف الاسم اتساقا مع مساحات الحذف في القصة يغمض فيه المتكلم.

ففي اللحظة التي نتوقع أن يكون فيها المقر هو السيدة إذا بالمقر من الرجال على ما يستفاد من "المخلص البار" وبطبيعة الحال فإن المقر لا يحتمل إلا احتمالا واحدا .هو المصور في الإقرار معاونا للرجل .

وقد يكون هذا الإقرار دليلا على المتكلم في القسم الثاني هو الرجل في محاولة التي يقر بنتائجها في القسم الرابع إقرارا موقعا.

ومن المعلوم أن العاملين في التصوير بخاصة التصوير السينمائي يستخدمون أحيانا كلمة "cut" أي قطع للدلالة على انتهاء التصوير لذا فإن "قطع رأسه" يحتمل احتمالا غير درامي انتهاء التصوير.فإذا عددناه دراميا قطعا حقا يعد قتلا.فلنعلم أن التسفير كان على الوجوه كلها نوعا من القتل أو الخلاص من عبء الشخص لفتح الباب لإطلاق الرغبات.

ومن الملحوظ أن هذا القتل يتم بإسم الإخلاص والبر والرأس المقطوعة بدت جميلة على نحو ما.

ينطوي الخلاص من الشخص العبء :بالعلاج أو القتل على درجة من المحبة إذ يتخلص الشخص نفسه من ألمه وعبئه ومهانته وكذلك ينطوي على خلاص من آلامه ودموعه وتثبيت صورة باسمة زائفة جميلة.تجرده من إنسانيته لتجعله جميلا ووسيما طيب المحضر.

هنا نستطيع التأويل أن يرى المشهد كله أسلوبا في علاج مجتمع مريض أو متخلف أو حياة معاقة بخلق صورة إعلامية ثابتة له محلاة بالبسمة واستقامة الظهر.

القصة لا تبحث عن فضاء جديد للسرد شأن قصة حمدي أبو جليل* ولكنها تصنع أيقونتها التي تجسد رمزيا أسلوبا سائدا في علاج الواقع.

أما الجدة فإنها تنشدها في هجر الحكي المسترسل البسيط الذي استخدمه حمدي أبو جليل

وما يستتبعه من جماليات للوضوح ومن متعة الذكر.

وتقبل على جماليات الحذف والغموض معولة على نشاطات القارئ وقدرات التأويل لتخرج صورة رمزية تنبني سرديا لا على الحكى بل على تتابع الخطابات بعضها طلبي مباشر"القسم الأول والثالث" وبعضها حواري وإن يكن أحادي الصوت (القسم الثاني) وآخرها تقريري يتخذ نمط الإقرار وينشئ بهذا التتابع نصا وحدته المشهد.

مازجا بين التصوير الفوتوغرافي والتصوير السردي الأدبي مزجا رمزيا.

* القصة منشورة بمجموعة "صوت الكمان"


** جزء من دراسة بعنوان" أبنية للاختيار..قراءة في قصص من الفيوم"د.مجدي أحمد توفيق – قدمت ضمت أبحاث مؤتمر الفيوم الأدبي الثالث : القصة والرواية الآن..في مصر- عقد المؤتمر في 1997

http://ashrafnasr.blogspot.com/

No comments: