Nov 27, 2015

Insomina تراجيديا الشعور بالذنب ..ولعنة الارق




Insomnia
تراجيديا الشعور بالذنب ..ولعنة الأرق
أشرف نصر

فيلم: Insomnia
سيناريو: Hillary Seitz 
إخراج: Christopher Nolan
بطولة: آل باتشينو- روبين ويليامز
إنتاج: أمريكي 2002

يقدم المخرج " كريستوفر نولان " فى فيلمه "الأرق" 
حكاية المحقق"ويل دورمر" يؤديه "آل باتشينو"، محقق ماهر جدا فى عمله ، والذي يصل إلى مدينة صغيرة للتحقيق فى جريمة مقتل فتاة أو شابة فى السابعة عشرة ..ويكشف قاتلها الكاتب "برودي" الذي يؤديه روبين ويليامز..كشف الجريمة ليس هدف الفيلم فالبحث عن القاتل بالطريقة التقليدية ليس هو الهدف من الفيلم فلديه العناصر الأهم التي يسعى خلفها وبالفعل يحققها.
المكان هنا أحد أبطال فيلمنا..ليس لأن المدينة شهيرة بكونها عاصمة الصيد ..الأهم أنها – أي المدينة – بها مشكلة أنها لا تظلم فى بعض الشهور فتصيب من يسكنها وخاصة الغرباء بالأرق بسبب النور المنتشر فى كل مكان..الطقس الذي يسوده الضباب عند البحيرة والنور الدائم ليس عنصرا هامشيا، بل سيفجر من خلاله الفيلم أزمة البطل الذي يعيش صراعا نفسيا يظهر تحت ضغط المكان ثم القضية التي يحقق فيها
وإذا كانت الحبكة المبدئية هي الجريمة التي حضر من أجلها "ويل" فنعرف خلال الأحداث أن الطالبة "كاي" التي تبدو كطالبة عادية تعيش مغامرات عمرها وقصة حب عادية مع زميلها، لكنها – أي كاي – تخفي علاقة مع شخص يكبرها ويهديها الهدايا الغالية ونعرف أن مؤلف روايات يعيش بالقرب من المدينة.
وتظهر فى محادثات "برودي " القاتل مع المحقق دوافع القتل وكيف ارتكبت الجريمة ..لكنها حبكة مبدئية أو حبكة ثانية لحبكة أهم ومحركة للدراما فى الفيلم..وهي حبكة أزمة المحقق /الضابط "ويل "فأزمة الأرق التي تحاصره نابعة من داخله..ومن ثقل الاحساس بالذنب ..والجميل والمثير للجدل هو نبل دوافعه ..لأن الضابط فى قضية قديمة سابقة على  الأحداث قام برزع دليل (أو دس/ تلفيق) دليل إدانة لمتهم، يؤمن بأنه مجرم لا يمكن تركه يفلت بجريمته بسبب اجراءات التقاضي..وسبب إثارتها للجدل كتصرف..هو كفة الإلتزام بالقواعد فى مقابل كفة الشعور بفداحة ترك مجرم يهرب من العدالة..تتصاعد الأزمة عند الضابط فى مطاردة الكاتب "برودي" وأثناء المطاردة يطلق النار فيقتل شريكه الضابط"هاب"..ولأن الشريك قبل بالتعاون مع الشئون الداخلية للشرطة والإدلاء بشهادته حول الجريمة القديمة ..يصبح السؤال الذي يعذب "ويل" هل قتل شريكه متعمدا ..أم بالخطأ بسبب الضباب والأرق الذي أنهكه..وبالفعل يصل لحالة من الشك والهذيان أنه ربما بالفعل قتل شريكه متعمدا..
وفى لعبة تبادل أدوار يحاصر المجرم الضابط.. المجرم /الكاتب برودي يقوم باستغلال الأزمة وتعذيب الضابط كفأر فى مصيدة..فهو ككاتب للروايات البوليسية خبير بنفوس البشر ونقاط ضعف الشخصيات..وقريب جدا من علم نفس الجريمة..فيلعب على وتر أنهما شريكان ومتشابهان ..كل منهما قتل بالخطأ ..بل ويبتزه ويزيد -بقسوة –اللعب على وتر أن الضابط قتل شريكه متعمدا وعليه التؤاطو الآن لإبعاد الشك عنه فى مقتل الطالبة..
من جماليات السيناريو هنا أن المحقق "ويل دورمر" ليس رجلا فاسدا دس الأدلة رغبة فى التلفيق لبرئ فى القضية السابقة..وفى القضية الجديدة أي مقتل الطالبة "كاي" يعذبه إفلات القاتل / الكاتب "برودي"..وحتى عندما حرف فى شهادته عما جرى عند مقتل زميله وشريكه يطالب المحققة "إيلي" بالتمهل وإعادة النظر فى تقريرها دون الاعتماد على كلمته..فهو لا يريد للمحققة الشابة "إيلي" (النزيهة / المتحمسة) مصيرا كمصيره بل يريدها أن تؤدي واجبها وأن تلتزم بالقانون..كي لا تعاني ما يعانيه من وخز الضمير..
ويقدم كريستوفر نولان ذلك الصراع الداخلي لدي البطل "ويل" بكل أدواته الممكنة فمعه ممثل من أعظم ممثلي الشاشة "آل باتشينو" ..كما يستغل المكان والطقس والتصوير والإضاءة خاصة فى مشاهد مقتل شريك "ويل" بالخطأ حيث الغابة والبحيرة وأجواء الضباب تسيطر على الصورة ..وفى مشاهد "ويل" فى غرفته حيث الإضاءة والنور وهو يحاول النوم ونكتشف فى أحد المشاهد أنه هو من يتصور ذلك فقد أظلم الجو بالخارج فى هذه الساعة ، وهو ما توضحه صاحبة الفندق الذي يقيم فيه حينما تنير لمبة الغرفة المظلمة فى حقيقة الأمر،،
والأجمل أنه يلعب بالجرائم كومضات بصرية تلمع أمام عيني المحقق " ويل" فنحن لا نرى مشاهد كاملة للجرائم.. بل فلاشات كومضات الذاكرة سواء أثناء تذكر "ويل" لمقتل شريكه ..وفى بحث جديد سوف يرى وجه شريكه المقتول فى وجوه من يبحثون ..أو أثناء حكي الكاتب "برودي" لقتله للطالبة "كاي"
فهو لا ينشغل بالجريمة ومشاهد القتل والجثث بقدر ما ينشغل بنفسية القاتل..وبقدر ما يناقش قضيته الأكبر حول الصواب والخطأ وأخلاقية سلوك المحقق ومعاناته الداخلية التي تدفعه لسلسلة الأخطاء..
يمكننا فى الأخير اعتبار "ويل دورمر" بطل تراجيدي أرسطي لكن بشكل معاصر حيث ارتكب فى بداية حياته خطأ يبدو نبيلا دفعه له الكبر أو تحدي (الآلهة قديما..أو عدالة ناجزة فى فيلمنا) يجعله يدفع الثمن عبر مأساة أكبر وجريمة أخطر ..
حتى حالة التطهير الدرامي نجدها هنا بموت القاتلان (المجرم "برودي ، والمحقق "ويل" ) فكلاهما لقى جزاءه المستحق "دراميا" وأخيرا سيتمكن "ويل" من النوم.. ويالها من راحة !
***
نُشر بمجلة أبيض وأسود
العدد 46 أكتوبر 2015

Oct 11, 2015

داخل لوين ديفيس.. روح الفنان القلقة وعبء الحياة


..داخل لوين ديفيس 
          روح الفنان القلقة وعبء الحياة
 أشرف نصر

   فيلم: داخل لوين ديفيس
تأليف وإخراج:الأخوين: جويل وإيثان كوين
 بطولة: اوسكار ايزاك
 إنتاج: أمريكي 2013

كدائرة مغلقة، نقطة البدء فيها هي نفسها نقطة النهاية، يقدم الأخوين كوين فيلمهما "داخل لوين ديفيس"، حيث مشهد البداية هو منتصف مشهد النهاية، حتى أنه يثير بعض اللبس خاصة ومشهد البداية/النهاية يبدو غريبا،
فنحن نرى لوين موسيقي الأغاني الفلكلورية فى الستينات يغني فى بار صغير، ثم يخبره صاحب البار أن هناك من قال أنه صديقه وينتظره بالخارج، وحين يخرج يجد رجلا لا يعرفه، فجأة ضربه الرجل وانصرف دون أن يبرر له ذلك،
 ثم نجده هو نفسه مشهد الختام لرحلة تبدو كأنها يوميات أو أسبوع عادي فى حياة فنان، فبعد مشهد الغناء ثم الضرب "دون مبرر" واضح،
يُسقط الفيلم اي لوحة عناوين مثل لوحة: قبل ذلك بفترة، أو بعدها، نعيش مع الفنان لوين تفاصيل حياة يومية قاسية، قسوة الجليد الذي يحاصر المدينة، لكنها دوامة لا يمكن فيها لبطلنا الوقوف والانتظار، فهو لا يملك أي شيء، لا بيت ولا مال ولا حتى معطف للشتاء القارس،
دوامة فيها البطل دائما جامد الوجه يحاول اخفاء مشاعره، ولا يرضى للخضوع لابتزاز مواساة الآخرين الزائفة، فمشاعر الشفقة "الزائفة" والروتينية تبدو أقسى عنده من ذللك البرد والإفلاس وتجاهل المجتمع لموهبته وبراعته وإيمانه بالموسيقى،
يخرج فقط من بين كل الغليان بداخله شتائم ولعنات وكبت للانفعال حتى لا ينفجر فى وجه الجميع، فالكل يدعي التفهم للأمر،
فقد انتحر مايك شريكه فى الموسيقى والغناء، انتحر وتركه يواجه وحده ضغوط آليات قوانين سوق الإنتاج التي تهمش كل ما فني لصالح كل ماهو تجاري، وضغوط الحاجة للمال،
أو حتى ما يكفيه شر ذلك التشرد، وضغوط النظرة له كلعبة لتسلية الآخرين فى دعوات العشاء، أو كما سماها هو (لست كلب بودل مدرب)، ذلك حينما تدعوه أسرة من أصحابه ممن يساعدونه فى المبيت على الكنبة لديهم، وهم من الطبقة المتوسطة يقيمون حفلا للعشاء وحين يغني تقحم صاحبة البيت نفسها فى معبده السري، وذلك بغنائها معه فى الجزء الذي كان يؤديه صديقه المنتحر "مايك"، فينفجر لتعريتهم بتفاهة ما يفعلون، دون أن يُصرح بألمه،
  فلو فكرنا بالأمر لثوان كمشاهدين، ف"مايك" وألم انتحاره وعدم توازن لوين بعد غياب مايك، أمر يخص لوين وحده، لا يحتاج من يذكره به، ولا من يحاول تأدية الغناء فى الجزء الخاص به فى أغنيتهما المشتركة، ولا طبعا من ينصحه بالعودة للغناء معه،
مثلما قال المنتج بعد أن قال ببرود قال حين سمع غناءه: لا أري هنا مالا، أو ربحا ماديا،انصحك بالعودة للغناء مع صديقك، طبعا نفس المنتج متحمس جدا لمطرب آخر لا يملك الموهبة لكنه يفهم السوق ويغني ما يحبه الناس من أغاني، ذلك المطرب المنسجم مع فكرة الخدمة فى الجيش ، ويسخر لوين هل دربوه أن يكون آلة قتل، فيتحدث بعنجهية ومرددا "بدعائية" الحديث عن تعلم الانضباط،
   فى تلك الأحداث اليومية والتي تبدو عادية بسيطة، تأتي الصدمات الكبرى بنفس البساطة المؤلمة مثل صدمة حمل "جين" صديقته التي تعيش مع جيم حبيبها، والتى مارس معها الجنس مرة فى خطأ مشترك منهما، لكنها تحمله وحده المسئولية عن ذلك الخطأ، وحين يذهب معها للطبيب لإجراء الإجهاض يكتشف الأكثر قسوة أن شابة سابقة حملت وأنجبت منه دون أن تخبره بإحتفاظها بالحمل،
 أما الأكثر صدمة ويمر عليه الفيلم بروعة وبساطة مؤلمة هو مروره فى سيارة أحد الغرباء بالمدينة التي عادت إليها أم ابنه أو ابنته (لا يعرف)، دون أن يقدر أن يذهب لهناك، فينظر للافتة المدينة ثم يكمل قيادته لسيارة الغريب الذي قبل توصيله مقابل أن يظل يقود السيارة،

 الفيلم رغم بساطته على السطح لكنه بالفعل داخل وفى أعماق نفس بشرية، وروح قلقة تعاني فى صمت وصبر واحتمال، يقدمها الفيلم بصورة تغلي من الداخل بالانفعالات، وتأتي الصورة بتلك الأضواء الكابية بعيدا عن ألوان زاهية أو أي شئ يوحي بالبهجة، ومخففة أيضا عن فكرة القتامة، سواء فى الديكورات أو الملابس أو الإضاءة بل نجدها أبيض وأسود وفى أفضل الأحوال كأنها محايدة رمادية، فالصورة كوجه الممثل/الشخصية يتقبل الأمور السهل والصعب منها محاولا التماسك ودون أن يُظهر ما يمور داخله،
  حتى حينما يعترف  لوين أنه قد تعب وأدرك أن المصير "البشري" شديد البؤس، ويشعر أن المأساة أكبر من الحدث اليومي المتكرر بالبحث عن مكان النوم، ويدرك بؤس ما جرى لوالده، يكبر ويمرض ولن يقدر حتى على الدخول للحمام وحده، بل سيقضي حاجته ويحتاج من ينظفه،
ويقرر هجر الفن والموسيقى ليعود" للمسار" المجتمعي المقبول بالوظيفة الآمنة كبحار على سفينة مثل أبيه، يفشل أيضا فى الأمر، فرخصة الإبحار ضاعت ولا يملك المال لتجديدها، ولا حتى استعادة ما دفعه منذ ساعات للنقابة،
وفى لحظة انفجار اخير، يسخر من سيدة ريفية، قدمت لتغني فى البار، فقد أخبره صاحب البار أن من يحضرون للبار أصلا يرغب بعضهم فى مضاجعة جين وبعضهم فى مضاجعة جيم، وأنه –صاحب البار-ضاجع جين، وأن ذلك ثمن الغناء فى المكان، جين هي نفسها جين التي حاكمت لوين حين فعلها، وذلك ثمن الغناء، وما حصلوا عليه جميعا فى تلك "المفرمة" الهائلة بدلا من النجاح أو الشهرة أو حتى الحياة الكريمة، وحين يسخر من تلك الريفية وهل هي أيضا رقدت بفراش صاحب البار، يطردونه من المكان، ولكن جين طلبت من صاحب البار أن يعيد لوين للغناء فى البار، فيغني، ويخرج لمقابلة من قدم لزيارته وهو الرجل الغريب – زوج الريفية- الذي يضربه (فى البداية والنهاية)، نعم عرفنا المبرر الظاهري للضرب،
 لكن يظل السؤال الذي يلازمنا بعد الفيلم، عن كل تلك القسوة اليومية وذلك الجليد والألم والدائرة التي يدور فيها لوين،مثلما دار المعادل الموضوعي الدرامي/قط فقده لوين -بالصدفة ودون خطأ منه- ويظل يدور باحثا عنه، ويعود القط لبيت أصحابه بنفس القدرية، مثلما ندور جميعا فى داوئرنا مسيرين ثم نعود رغم استنزاف مواهبنا، حياتنا،
والأهم أرواحنا،
نحلم بما غناه لوين وصديقه "مايك-المنتحر" لو كان لدينا
 أجنحة !
***
نشر بمجلة أبيض وأسود
العدد 45 سبتمبر 2015

Sep 13, 2015

الصعاليك ..الصعود من القاع للمستنقع !


الصعاليك.. الصعود من القاع للمستنقع !

 أشرف نصر

فيلم: الصعاليك
 تأليف وإخراج: داود عبد السيد
 بطولة: نور الشريف – محمود عبد العزيز- يسرا  

بعنوان مكتوب على الشاشة يضع الكاتب والمخرج داود عبد السيد المحددات المكانية والزمانية لفيلمه الروائي الأول "الصعاليك"
،الإسكندرية 1962 ،ومع صوت عبد الحليم حافظ فى الراديو يغني واحدة من "الأغاني الوطنية " يجلس مرسي وصلاح يأكلان،،
ويقدمهما بخفة ظل كجائعين لا يملكان المال،ولكنهما "يتسابقان" على من منهما صاحب الدعوة،رغم أن النهاية طبيعية الضرب أو الهرب،
الإسكندرية مدينة أثيرة عند داود عبد السيد (وهي كذلك كمكان عند معظم الكتاب والفنانين – وزمنيا فى فترة كونها كوزموبوليتان/عالمية رحبة للبشر على اختلافهم، قبل هجرة الأجانب واختفاء الثقافات المتعددة لصالح الصوت الواحد) ،
وللمدينة والحنين للمرحلة عودة فى مسيرة المخرج فى فيلم"رسائل البحر"،
 وأما الزمن نحن فى عالم الستينات ومطرب المرحلة الناصرية يغني للفلاح والعامل فى أغنيته، وأبطال الفيلم من العمال، لن نجدهما بالصبغة "الرسمية/المعتمدة" يكدحان لبناء أمجاد الوطن،لكنهما من الصعاليك/المتشردين (وهنا استخدم الوصف للتحقير كما يستخدم عادة، دون إضفاء أي ظلال للمفردة ونعني تاريخيا ظهور بعض الشعراء منهم بل والمشاركة فى الثورات ضد الحكام،وهو على أي حال امر تاريخي فى تاريخ العرب،واكتفى بإضفاء سمة بارزة تضفي نبلا على شخصيتيه مرسي وصلاح وهو صداقتها الأبدية) ويحاولان العثور على المال والخروج من قاع المجتمع بأي طريقة،
 يهربان السجائر من الميناء، يعملان فى مختلف المهن الصغيرة كبيع المياة الغازية أو "منادي سيارات"،
 وتظل مشاجرة عابرة مع "أفندي" من طبقة أعلى عالقة بأذهانهما طوال الوقت حين أخبرهما بموقعهما فى البلد والحياة مجرد صعاليك،
 بإحترافية وسلاسة يقدم النقلات الزمنية ويتخطى الأزمنة الدرامية الضعيفة فحين يقدم شخصية صفية ويقدم حب مرسي لها ينقل لمشهدها وهي حامل تخدم زوجها وصديقه صلاح
، ثم يكمل رحلة مرسي كقائد سيارة أجرة الآن بعد أن كان تابعا"تباع" وكيف يرتكب حادثا تحت تأثير الحشيش فيدخل السجن
سنجد فى الإيقاع فصلا-طال- وصار رتيبا فى محاولات صلاح أن يتحمل هو المسئولية عن صاحبه،
 وبينما يدخل مرسي السجن ويدرك أزمتهما فيصبح الإرتقاء من التشرد والسرقات الصغيرة لأخذ مكانة محترمة من المجتمع والحياة هي هم مرسي وصلاح، ومرسي خاصة بحكم أن رسم شخصيته على أنه العقل المفكر للصديقين بينما صلاح هو القوة أو "العضلات" ،
وخلال فترة السجن نجد واحدا من أروع الفصول فى الفيلم –وأظنه- فى السينما بشكل عام،
حين يمد الخطوط الدرامية لشخصياته فتقع كثمرة ناضجة فى تصرفاتها، وبلغة الحوار البديع فى أهم المشاهد (زي العجين لما بيختمر) أقصد عندما تجد صفية نفسها فى أحضان صلاح،
فهي تغسل ثيابه وتشم عرقه فيها، ينفق عليها، تراه ليلا ونهارا وصار ك"رجل البيت" بالنسبة لها وزوجها فى السجن، حتى أنه تقسم له أنها كانت تحس أنها فى أحضان مرسي وليس هو، وأن ما حدث "مقدر ومكتوب"
ويمكن الإشارة إلى لأداء وحوار صفية (يسرا) فى مشهد الخيانة ،والذي –فى رأيي- لم تقدم مثله فى رحلتها الطويلة، ليس تقليلا من أدوارها ورحلتها وإنما للإشادة بالمشهد،
المتفرد هنا هو أن ليلة الجنس بين صلاح وصفية تذوب فى الحياة اليومية للشخصيات، وتبدو كواحدة من الخطايا البشرية التي يحاول فاعلها طوال الوقت أن ينساها كأنها لم تكن،
ربما لو تغير الكاتب/المخرج كنا سنكون أمام "مناحة" الخيانة والإنتقام والندم والثواب والعقاب،
 لكننا نتابع كيف يرتقي اللصان، فيهربان المخدرات مرة واحدة (وهنا يقدم أغنية بالأحضان يا بلدنا، تبدو – لي- الأغنية هنا بها مباشرة لاحداث الأثر الكوميدي، وليست فنية فى توظيفها كالأغنية الأولى)
وينطلقان لعالم الثراء ويزيد المال وتعيش صفية حياة الثراء لكن الثلاثة من "محدثي النعمة" لذلك سيحتاج صلاح للإرتقاء الطبقي العاطفي حيث تظهر منى الجامعية المثقفة التي تحبه لكنها لا تهتم بماله وتريد إكمال دراستها بالخارج،
فى رحلة مرسي وصلاح يتوهم صلاح أنهما وصلا للقمة بينما مرسي "الأكثر وعيا" بحقائق الحياة يدرك أنهما فى دائرة مغلقة، ووصلا فقط لقمة جبل الجليد، فحين كبرا كرجلي أعمال انتبه لهما "اللصوص الكبار"، يظهر الدواخلي، رجل السلطة والمال الذي يبتلعهما فى شراكة تحولهما للعبة فى يده،
وعودة لفكرة تحديد الزمن، هنا يقدم الدواخلي بيه ملامح الزمن الجديد (السبعينات) حيث يجب إنهيار القطاع العام وتدميره من أجل رجال المال والمفسدون الجدد، والشراكة تصل بهما للنهاية المنطقية حين يدمرهما الدواخلي عند فض الشراكة،
فى معظم الوقت يسعى المخرج لتقديم صورة بانورامية لحكاية مرسي وصلاح وفى مشاهد البحر والشارع يحرص على ختام المشاهد بالإبتعاد بحركة هادئة لتصبح اللقطة واسعة وفيها صلاح ومرسي كنقاط صغيرة/صعاليك،ضئيلا الشأن فى المدينة،
ولا يحاول "التدخل" لدى المشاهد "بإلحاح" إلا مرات قليلة، مثل تدخله فى مشهد سقوط الفاكهة من يد مرسي ونرى تدحرجها والكاميرا تتابعها، فى إحالة للثمرة المحرمة،
وفى رأيي أنها من مفردات الكاتب/المخرج وخارج سياق الفيلم، ويمكن ملاحظة توظيفها فى مكانها فى عالم فيلمه "أرض الخوف" حيث يحتمل الأخير تعدد مستويات القراءة والتفسيرات، لكن فى"الصعاليك"بدت مقحمة،
 وإجمالا يظل الصعاليك، رؤية فنان يجيد تحليل مجتمعه وتغيراته عبر شخصيات مرسومة بعناية فى رحلة صعودهما "المفترضة" والتي وظفت المكان والزمن بدقة، ويمكن الإشارة لعالم فيلم"مواطن ومخبر وحرامي" كإمتداد وتطوير لقراءة المجتمع وتغيراته،
ويظل تقديما مؤثرا لمخرج متمكن من أدواته فى عناصر الفيلم،
كما يجدر أخيرا الإشارة للفلاش باك الوحيد فى الفيلم، وهو مشهد النهاية، ليس فقط لتذكر مرسي لمشاجرتهما وأول مرة سمعا لفظة الصعاليك
 بل وأيضا إنطلاقهما كشابين سعيدين يلهوان
ولم يدر بخلدهما أنهما فى قبضة حياة تلهو بهما!
***
نشر بمجلة أبيض وأسود
العدد  44 أغسطس 2015

Aug 30, 2015

دعوة "للتورط" فى ... ديموديه !



ديموديه ..
أولنا الموت وأخرنا الموت وبينهما الغناء !

يضع الكاتب أحمد نبيل يده على عالم الغناء/عالم الكاسيت/الزمن القديم
بدايات الأشياء وطفولة البشر وتحولات الحياة ومصائرهم
فى كل قصة بهجة
لكن بين السطور وجع وألم
البدء بعيد الميلاد لكنه "عام الحزن" حيث (تفرغ ملك الموت لاصطياد أهل الإبداع) تاركا بطل القصة فى مفارقة مؤلمة،
 وفى منتصف المجموعة نعيش مع أصدقاء الطفولة والشباب وتحولاتهم الغريبة ومصائرهم المفجعة أحيانا، المضحكة أحيانا، المثيرة للأسى دائما،
 فى المنتصف قصة "الغناء تحت المطر" وبطلها الصاخب فى حياته الموجع فى رحيله،
ويعبر بعدها الكاتب ببقية شخوص عالمه فى عالم من الواقعية السحرية
خاصة فى قصة "منقلبة" الذي يتحول بطلها "حنفي الفيل" لعصفور وفيل وكل ما يفوق الخيال،
تشعر أنه –الكاتب-يعربد فى منتصف القصص بكل متع الحياة لكن الموت حاضر وجاثم دائما بين السطور،
حتى تصل لأكثر القصص وجعا وألما وشجنا، القصة التي لا تكتب كل يوم، ولا كل عشر سنوات حتى!،
 أعني قصة"يا ليل" هنا ليل وصبح شقيقان، مات احدهما وحمل الآخر الشعور بالذنب، اغترف ليل من متع الدنيا ونال صبح بعض من خيراتها على يديه وتحت جناحه، لكن الموت/القدر يتربص بالجميع، فيحول صبح لقابيل الذي قتل هابيل،
ولكن هنا لسنا أمام القصة الدينية بل نحن مع القصة المكتوبة فهابيل (ليل) ربما يكون القاتل وليس العكس، أو على الأقل يسعى لحتفه،
وربما لا قاتل ولا مقتول وإنما ليل وصبح فى دائرة جهنمية تجعلنا جميعا (نقتل) بفتح النون وضمها!
**
مجموعة ديموديه تحتاج لقراءة واحدة،
فتجد نفسك "متورطا" فى قراءتها مرات ومرات، فالحكايات على عذوبتها لا تمنحك كل متعها من مرتها الأولى بل تثير شهيتك للبحث بين سطورها ومعادوة قراءتها، "عن نفسي" صرت مصابا ب"عقدة" قراءة "يا ليل" حتى نسيت عدد مرات قراءتها!
*
 ديموديه قصص: أحمد نبيل
 دار:شرقيات2015
لوحات وتصميم الغلاف:هيثم شريف

Aug 12, 2015

الشرف .. السهل غير الممتنع !


الشرف.. السهل غير الممتنع !
 أشرف نصر

فيلم: الشرف
إخراج: محمد شعبان
سيناريو: مصطفى محرم عن رواية " بيوت وراء الأشجار " : محمد البساطي
 بطولة: فاروق الفيشاوي – جيهان فاضل – مصطفى شعبان

 " سامية ترحل مع شقيقها وزوجته عن بورسعيد بعد عدوان 1967 ضمن "المهجرين" الذين تفرقوا فى محافظات مصر بعد العدوان الإسرائيلي على مصر، وفى البلدة التي استقرت فيها سامية وأسرتها يراها الجزار مسعد فيعجب بها ويتزوجها ويعاملها كجارية ليس عليها سوى خدمته فى البيت وخاصة فى السرير، وتتعرف سامية على الشاب عامر الشاب الجامعي ابن صديق زوجها، ويعامله المعلم مسعد كإبن له ، ويضبط مسعد زوجته سامية مع عامر فيحبسها ويطارده حتى يجتمعون جميعا فى الغرفة ويحترق البيت بمسعد وسامية وعامر"

فى الفيلم سيظهر زمن الأحداث عبر توزيع صور جمال عبد الناصر فى البيوت، وأغاني قديمة فى الراديو وحوارات عابرة عن الحرب ، ويتم اختيار اسم الشرف بدلا من بيوت وراء الأشجار، التي يبحث الروائي كشفها للقارئ لنعرف أنها تحمل عكس ما يظهر لنا، اما عنوان "الشرف" حيث سيركز الفيلم على المباشرة فى طرح فكرة الشرف ، هل هو من حق الزوج الجاهل الهجمي السلوك أم أن سامية الحالمة الرومانسية هي الشريفة حقا وكانت ضحية الجميع،
فى واحد من مشاهد الرواية ( المهمة) تفقد بطلتها عذريتها بشكل يحمل كل البؤس والألم النفسي حيث نقرأ وصفا دقيقا لها وهي نائمة فى فصل المدرسة التي استقروا فيها، وتمتد يد من تحت الملاءة الفاصلة بين أسرتها وأسرة أخرى بها شقيقين من العجائز ، تمتد يد أحدهما وتبدأ فى التحرش بها حتى تفقد عذريتها وتنزل دموعها قهرا وكبتا وألما وبؤسا لا آخر له فهي حتى لا تعرف أيهما الفاعل، فى الفيلم ستجد الأسرة التي تشاركهم الفصل أسرة من البدناء فى محاولة للاضحاك من شكلهم وطريقة أكلهم، ثم تجد فى المشهد المشار إليه لفقد العذرية يد تمتد لجسدها فتنهض بسرعة مبتعدة وتخرج من المكان لتبكي، بدا المشهد فى الفيلم عابرا كمضايقة عادية وليس حدثا فارقا يستحق التوقف عنده و "بروزته"
ولو توقفنا عند سامية البطلة التي من المفترض معايشة أزمتها بدقة نجد التركيز على جمال ملامح الممثلة ومشاهد كثيرة لها فى الظل والنور وهي تحرك شعرها وتخفض نظرتها خجلا، دون أن نشعر بصدق أزمتها ،
والأكثر ضعفا بين الشخصيات هو عامر الذي نراه باهتا لا يأتي بتصرف درامي واحدا نفهم من خلاله شخصيته ولا يتحدث سوى بجمل غريبة كأنها من كتاب (وصفة الاكليشهات الجاهزة، صفحة الشباب) جملا مثل: لا يا عم مسعد المظاهرات مش حاجة وحشة – كل كلام الحب كنت باسخر منه لحد ما قابلتك يا سامية – انت وحيدة زيي يا سامية تعالي نهرب منه.
وفكرة الحوارات المعلبة مهيمنة على حوارات كل الشخصيات وليس عامر وحده ويمكن ملاحظة حوارات الفلاش باك بين سامية والمجند مجدي حبيبها الأول والذي غاب فى النكسة ،أو حوار شقيقة مسعد الطامعة فى مال سامية لان شقيقها مسعد سرق حقها فى الميراث، أو جملة سامية فى النهاية: انا باكرهكم كلكم ! أما المرة الأغرب فى الفيلم والتي خرجت من الحوارات المعلبة جاءت بمفردة من المنطقي أنها لم تكن متداولة فى زمن الفيلم اصلا، يقول شاب: هي المُزة معاك؟ فهل كانت توصف المراة (مُزة) فى 1967 !
 الاجتهاد الوحيد –فى رأيي- فى تفصيلتين الأولى أن أول لمسة يد بين سامية وعامر خلف ظهر مسعد، كتعبير حركي بالمصادفة عن  بداية علاقة، وكان مسعد مسطولا وعامر وسامية يحاولان مساعدته وتوصيله للفراش،
وكون الأحداث والزواج والجزء الحزين فى حياة سامية أثناء الصيف وعندما بدأ فصل الشتاء تحدث أول قبلة من عامر لسامية،
 بخلاف ذلك عاد الفيلم لفكرة تفصيل السيناريو لممثل ولن تكون سامية ! بل سيكون مسعد بسبب اسم الممثل
فنعيش أغلب الفيلم ونرى يضحك ويضاجع ويضرب يمنيا ويسارا فى محاولة لايصال النهم والسلوك الهمجي المفترض فى الشخصية،
 وظل فى منطقة "كان" كأن فاروق الفيشاوي مسعد، وكأن جيهان فاضل سامية، وكأن مصطفى محرم كتب سيناريو هاما، وكأن محمد شعبان قدم فيلم مؤثرا،
وكأن الشرف فيلما،
وكأني قدمت نقدا له !
***
نشر بمجلة أبيض وأسود
العدد 43 يوليو 2015

Jul 6, 2015

مع الذكريات..خلود شخصية بعد اندثار فيلم !


 مع الذكريات ..
 خلود شخصية بعد اندثار فيلم ! 
أشرف نصر 

فيلم
: مع الذكريات
 تأليف وإخراج: سعد عرفه
 بطولة: أحمد مظهر- مريم فخر الدين-نادية لطفي- صلاح منصور إنتاج: 1961 
"شريف ممثل شهير يعاني من حالة نفسية بعد إطلاقه الرصاص على حبيبته وخطيبته إلهام اثناء تصوير مشهد، بعد أن قام مساعده  مدبولي"الأحدب المجنون " بوضع رصاص حقيقي بدلا  من الرصاص "الفشنك" فى مسدس التصوير"
 للوهلة الأولى تبدو فكرة الفيلم جاذبة للاهتمام ومع تطور الأحداث سنرى كيف تظهر المفاجأة الدرامية والحقائق مختلفة عما يظهر لنا، فالدوافع لدى الشخصية (شخصية مدبولي –التي نظلمها لو وقفنا عند وصفها بالأحدب المجنون) تضعنا فى عالما دراميا مثيرا باعثا للأسئلة وتكرار المشاهدة،
 لكن، المفارقة أن شخصية مدبولى تحلق فى سماوات بعيدة، بعيدا عن بقية الشخصيات بل وبعيدا عن الفيلم ككل بأفقه المحدود، فى عناصره من سيناريو وإخراج وتمثيل ،
فالمكان كما "يقول الكتاب" بين الاستديو وبحيرة قارون والمشاهد رومانسية "حسب المفهوم التقليدي للرومانسية" والحوار مباشر، الشخصية تقول ما بداخلها للمشاهد كأنها كتاب مفتوح تفهم نفسها تماما و"تسقيه" للمشاهد الذي يتابع الأفكار المعتاد عليها فى قصص الغرام، مع مشاهد المطر وارتطام الشباك فتسقط صورة الحبيبة، والنزهة فى مركب، وغيرها من وصفات جاهزة،
ولو نظرنا للبطل "شريف"ربما تفقد الإيهام وتتحول للنقيض من الأثر المطلوب فى التعاطف مع ازمة البطل إلى السخرية من كلامه وتصرفاته، وفى ساعة أو أكثر من الفيلم تجد الإيقاع هادئ لدرجة الملل..دقائق طويلة شريف يقف أمام البحيرة "بحيرة قارون" ينظر للموج، أو يقف فى البيت ينظر لصور حبيبته ، فى محاولة للتعبير عن أزمته، ونرى باسهاب المرض واحضار الطبيب والهذيان باسم "إلهام" ثم نعود بالزمن لنرى قصة حب رومانسية بينهما،
حب "تقليدي" من اكليشهات التصرفات والحوار والمشاهد وخلال استعدادات الزواج يلح الكاتب/ المخرج سعد عرفة على المشاهد بفكرة (انظر لبراءة إالهام واخلاقيتها) و-كانه يتعامل مع مشاهد غبي- يصر على المعلومة مرات عدة من أجل التمهيد للمفاجاة التي ستقلب الرؤية والحكم عند المشاهد
، بأن إلهام كانت خائنة ومدبولي فعل ذلك من "فرط محبته" لصديقه، وفى تصرفات شريف ينقلب الأمر من شخص طيب لشخص "عبيط" ونحن نراه يفعل ما يفعل ،حتى انه يرى فى البداية مدبولي يحاول اغتصاب حبيبته فلا يريد طرده من العمل "كي لا يقطع عيشه"!
 فهل من عاشق ملتاع من أجل قبلة ويكابد من أجل اللقاء الجسدي بحبيته ويعاني من اصرارها "الأخلاقي" ألا يحدث إلا بعد الزواج، هل هذا تصرفه عند دخوله ورؤيته لمحاولة اغتصابها ممن بعطف عليه، سيبقى حريصا على تلك الطيبة، ربما!
وبالطبع لن نجد أفضل من أحمد مظهر بذلك الجمود و"التخشب" فى الأداء(فى الكثير من أدوراه) من أداء شخصية مرسومة دراميا بتلك  الوصفة الجاهزة سنجد بقية الشخصيات والأحداث ومنها شخصية آمال، التي تحب شريف الذي رباها لقرابتهما البعيدة و"تتفاني فى حبه على طريقة: والحب من غير أمل أسمى معاني الغرام" الطريقة التي ربت أجيالا على استعذاب الماسوشية والمهانة فى علاقات الحب، عبر تلك النوعية من الأغاني والأفلام،
 ولكن الفيلم الذي –اظنه- "اندثر" فى ذاكرة المشاهد أو على الأقل يحتاج جهد للتذكر،
صنع لنا أيقونة خالدة هي شخصية مدبولي التي قدم بها صلاح منصور واحدا من العلامات فى فن الأداء
، المكياج بالحواجب الثقيلة، والشارب، و"كتلة" حدبة الظهر وبذلة وحيدة طوال الفيلم، أشياء مهمة طبعا، كرسم خارجي للشخصية، لكن الأهم هو المحتوى، فكما الشكل علامة بصرية، يقدم لنا صلاح منصور علامة نفسية، فى شخصية ثرية كشخصية مدبولي (والتي لو رسم السيناريو بقية الشخصيات كما رسمها لكنا أمام فيلم أروع كثيرا،والغريب مهارة حوارها عكس باقي الشخصيات) كأننا أمام صورة نبيلة من فكرة" الدبة التي قتلت صاحبها" فمدبولي سيقتل ، أو بالأدق يدفع صاحبه للتخلص ممن لا تستحقه، لاحظ جمله البسيطة الرائعة فى الحوار عند اكتشاف الخيانة،
 ونعني جملا مثل: بس الأستاذ شريف هيزعل، وعند حديثه عن الخائن أو عشيق إلهام: أنا اطلع له بطوبة وهو هيخاف،
 تفكير مدبولي كتفكير الأطفال بسيط وواضح ويصل للتعبير عن أفكاره عبر مخزونه الضئيل من الكلمات والتصرفات لكنها دائمة صادقة
، صلاح منصور هنا يحني ظهره نعم، لكن يرفع قامته كممثل أمام أقرانه فى العالم، كل مشهد هو درس فى الأداء،
فمثلا فى مشهد الاغتصاب المفترض نرى أنه يقبل إلهام ويحتضنها بأداء عشوائي مناسب لاعاقة يده وصعوبات الحركة مع الحدبة التي تثقل الظهر،
وحين يحكي حقيقة الأمر لشريف وكيف دبرت إلهام ذلك نرى كيف كانت إلهام تتشبث به وتدعي عليه لطرده واخفاء جريمتها، سنراه يؤديه بطريقة مختلفة تظهر عجزه عن المقاومة (مقاومة الأصحاء بدنيا) ،
 أو فى مشهد القتل وكيف تغيرت انفعالاته من الضحك عند مقتل إلهام للبكاء وهو يرى حزن شريف عليها، وبعد شخصية/دور/أداء كهذا، يقدم صلاح منصور"مسك الختام" حين ينتهي من اثبات براءته عند صديقه ويكشف الحقيقة، يموت فاتحا عينيه وفمه فى جلسته على الكرسي، مع جمود الوجه فى أداء
مبهر، لصعود روح مدبولي للسماء لتشكو لها ما جرى لها مع البشر القساة وأفعالهم الحقيرة !
***
نشر بمجلة أبيض وأسود
العدد 42 يونيو 2015

Jun 25, 2015

سمع هس ..عذوبة أغنية الصعاليك فى مواجهة لزوجة النشيد الوطني


سمع هس.. 
                عذوبة أغنية الصعاليك فى مواجهة لزوجة النشيد الوطني !
   
 أشرف نصر  

  "الحياة تراجيديا لو نظرنا لها عبر لقطة مقربة .. ولكنها كوميديا لو نظرنا لها عبر لقطة بعيدة" 
هكذا تحدث واحد من أهم صناع السينما فى تاريخها، شارلي شابلن، الذي كتب وأخرج وأنتج، وقام بالتمثيل فى علامات سينمائية -من المعروف مكانتها ومكانة صاحبها-في الفن السابع، والاستشهاد بشابلن ليس لظهور شخصيته الفريدة (الصعلوك) فى فيلم سمع هس،  وفى الفيلم سنعرف محوريتها، بل لأن فلسفة شابلن فى أفلامه التي تلخصها هذه االجملة، هي التي تمنحنا مفتاحا لفيلم (سمع هس)، ولعالم كاتبه المثير للدهشة والبهجة دائما، الكاتب ماهر عواد، حول النظر للحياة فى لقطة واسعة لرؤية كوميديتها بدلا من الهزيمة أمام مأساوية تفاصيلها،،
يشارك عواد "اللعبة" هذه المرة شريف عرفه مخرجا ، وممدوح عبد العليم وليلى علوي وأحمد بدير وأحمد عقل وسهير الباروني وحسن كامي فى التمثيل، ويبدو لافتا أن يكون الفيلم من إنتاج الثلاثي: عواد وعرفه وعبد العليم،
 البداية تضعنا فى قلب المشهد مباشرة، نحن فى شادر شعبي به المهرجين، والمطرب حمص وحلاوة، ورجل يسكر ويضايقهما فيقصان شاربه ويهربا، لينزل تتر الفيلم "سمع هوووس" ، كتب اسم الفيلم حسب نطقه، وهي المقولة التي تقال فى الفرح عند محاولة تنبيه الجمهور لما سيسمع الآن، ليتوقف عن الضجيج وينصت، وهنا استخدام تفصيلة كلمة تستخدم من قلب اجواء عالم الأفراح والغناء، وبالفعل سندخل مع الفيلم عالما جديدا مختلفا عن التيار الواقعي السائد، نحن سندخل مع الكاتب ماهر عواد، عالما من الشخصيات الهامشية المحبة للحياة والتي تواجه جنون الحياة بجنون أكبر، وسوف نرى هموم الواقع مغلفة بطرافة كوميدية، لا تقف عند الايفية اللفظي، بل كوميديا الموقف، وخفة الظل فى الحوار تنبع من لغة كل شخصية
 والفكرة ببساطتها "الماكرة -المكر الفني" ربما لا تتجاوز  سطورا قليلا حتى لو حكينا كل أحداث الفيلم "حمص وحلاوة مطرب وراقصة يغنيان فى الشوارع أغنيتهما الخاصة بهما، والبسيطة جدا، ويسرق اللحن موسيقي شهير،ويضع عليه كلمات لنشيد"وطني" رنان ، ويحاولان استرداد حقهما فيقف المجتمع كله ضدهما" والشخصيات هنا هي التي تتصادم بشكل كوميدي وتصنع المفارقة فى موقفها من الأزمة! 
فأزمة حمص وحلاوة أنها اغنيتهما، بينما المجتمع كله (بخلل معاييره) يراهما متشردين ليس من حقهما الشكوى ، بل عليهما الفخر بما فعله الموسيقي الكبير "غندور " من وضع كلمات وطنية بدلا من كلماتهما، وبمشرط الجراح لا يرحم الفيلم غندور ويكشف ماكينة الإعلام الكاذب، عبر رؤيتنا لاختطاف غندور لرجل متشرد عازف بيانولا (شارلي) ثم تهديده للحصول على لحن جديد (عندي مناسبة وطنية ومزنوق فى لحن) فيحصل على اللحن الذي سمعه شارلي من حمص وحلاوة،،والمؤلف (الذي سيفبرك أي كلام) جاهز ويدخن الشيشة و"يبدع" وهو يهز رأسه لربة الإلهام
، لن تقف السخرية ابدا فى الفيلم، فغندور يرقص فى الصحراء وعلى مركب فى النيل (فى "بارودي" أو محاكاة ساخرة لما نراه فيما يسمى بالأغنية الوطنية) ، وعند نزولها للأسواق طبعا تحقق النجاح والانتشار ، فالحساسية الوطنية حاضرة، والشوفينية ملتهبة عند الجميع، حتى أننا نرى السكير الذي يضايق حمص وحلاوة، وطامعا بالطبع ككل السكارى فى جسد حلاوة، يتوتر جدا من سماع (النشيد واللحن الوطني العظيم) يغنى بطريقة حمص وحلاوة وفى كبارية! هكذا نجد مفارقات انهما صارا لصين لما هو فى الأصل ملكهما ، وهو لحن اغنيتهما البسيطة العذبة، واللص غندور بأغنيته الزاعقة اللزجة صار صاحب الحق، وسنرى أن حساسية السكير "الوطنية"ليست قصرا عليه، فالجميع يقف ضدهما من الأثرياء ، وحتى -للمفارقة-الفقراء كماسح الأحذية والصياد وغيرهما،،وحتى من يقف معهما يكون بلا حول ولا قوة مثل عازف البيانولا شارلي، وعفارم عازف الربابة، 
فى الفيلم يمزج بين  السياسة -فى فكرة اللحن الذي اصبح بالتضليل لحنا وطنيا ، يصبح المساس به خيانة للوطن! -بمصيبة اجتماعية وكبت جنسي جعل سلوك الرجال تجاه النساء ككلاب لا تريد سوى نهشها مثل صفصف بيه منتج الكاسيت ، "المثار دائما" ،وزبائن الكباريه وزبائن الافراح، وخط الشباب المنطلق كالقطيع فى الكورنيش لاصطياد اي ضحية ، وصولا لحق إنساني ضائع حول الفقراء الصعاليك وموقعهم فى الحياة، فحمص يريد حياة طبيعية وأن ينجب من حبيبته، دون أن يجدا فرصة لتلك الحياة الطبيعية..والمؤلم فى مفارقة أن لا أحد يريد لهما تلك الحياة فصاحبة البنسيون الذي ينزلان به تطردهما فى أقرب فرصة، والمحامي يبيعهما ويقبض الثمن لخيانته 
..أما الفارق والمبهر كيف مرر الفيلم سخريته من القضاء، (لاحظ محاولات التقديس المستمرة للقضاء المصري، كأن الحديث عنه كفر بالله والوطن) فهو يقدم وبنفس طرافة الفيلم القاضي (خيري بشارة) الأقرع الجالس ممسكا بمطرقة (كلعب الأطفال "بزمارة") وكيف يحضر المحامي بالبيجامة، وكيف يأبي القاضي سماع شهادة شارلي عازف البيانولا، بحجة أنه معتوه، وهنا نرى كيف ينزع تلك القداسة المزعومة ويظهر أنه مؤسسة ،كالإعلام وكالمجتمع ككل ، لا يضع حمص وحلاوة إلا أسفل حذاء غندور وأمثاله، وقد تحولت المحاكمة لمهزلة وضرب من حمص وحلاوة فى الجميع، 
ومن الذكاء الفني للمخرج تصوير المشهد فى ديكور، كأننا بالفعل فى مسرح وليست محكمة، وقدر مرر الفيلم ذلك عبر "استايله" الساخر ،بداية من السيناريو مرورا بالتمثيل وصولا للإخراج، فنلاحظ كيف أدي الممثلون ادوارهم بنفس روح اللعب والكوميديا وحتى فى توصيل معلومة وربط المشاهد سنجد مثلا عازف الربابة عفارم يغني(55 دكتور، غير التمرجية، وحمص فى الإنعاش، وحلاوة عملية) ،
 واخراجيا كيف تحرك المخرج شريف عرفة بحيوية مع أبطاله فى مشاهد سريعة مكثفة، دون مبالغات فى التكنيك، أو حتى رسم مينزانسين معقد للحركة، بل تعمد البساطة، وسرعة الإيقاع ، وتعمد البدء فى منتصف الحدث فى المشهد، والقطع السريع دون تشبع ، للنقل لغيره، حرصا على اللهث مع حمص وحلاوة ، وايقاعهما فى هذه الحياة، وتوجيه ممثليه فى الأداء بمرح مع استغلال موسيقى مودي الإمام كمشهد دخول حمص وحلاوة والبنسيون ، والمواجهة المرتقبة مع عفارم، المتأهب للص خطير ويجهز الربابة كسيف وب"كلوز آب "على اكره الباب، ثم يكتشف انه حمص صديقه الذي يقفز لاحضانه ، وكعادتها تزغرد حلاوة. (تخلي المخرج بعدها عن تلك البساطة لصالح تقليد الإخراج الهوليودي فى أفلام الأكشن)،
 وكما قدم سمع هس الخيارين، البعض يفضل احتمال صدق ومعاناة حياة حمص وحلاوة ، والبعض يختار نمط حياة غندور وراحة المؤسسة وبريقها،وكل يختار مساره، والأهم هنا هو الإشارة إلى اتساق ماهر عواد فى أفلامه منذ بدايتها حتى آخر ما ظهر له،
 وسنشعر بصلات القربى بين حمص وحلاوة وبقية أبطاله، ليس فقط فى هامشيتها وحبها للفن والحياة، بل سنلاحظ دائما أن الحاضر هو الأساس فلن نسمع سوى شذرات عابرة عن تاريخها، كأنها بلا تاريخ، وليس لها مستقبل واضح المعالم، بل يقذف بها لحاضر ضاغط وعليها النجاة ، تماما كما يحدث للفقراء وصعاليك الدنيا،(وكشارلي شابلن دائما فى دور الصعلوك)  عليهم النجاة والحياة الآن فورا، 
وهنا تصبح المقاومة واجبا وليس رفاهية ،مثلما ظل حمص وحلاوة يقاومان ولو بالغناء (سلاحهما الوحيد) فى مواجهة هذا الواقع الكريه. وحتى ينتهي الفيلم بصورتهما على بيانولا شارلي بدلا من غندور وهما يصرخان فى الجميع، بل وفى وجوهنا كمشاهدين : هتشوفوا. 
ليس بالضرورة التقيد بفكرة سنة 2000 كتاريخ كان من المفترض أن "يعدل فيه الميزان المقلوب" بل الأولى اعتبارها إشارة للأمل والمستقبل، والتعلق بالأمل دائما سمة الصعاليك للقدرة على الاستمرار ، كل جهامة الواقع وما تحدثنا عنه بشكل جاف، عالجه الفيلم فى مشاهد لن يتوقف فيها الضحك، لكن ضحك لا يلهي عن التفكير، ضحك سيجعل الدموع تتسلل للعيون، أو بالأحري صحكات من فرط الشجن ، كمشهد بديع يتم ضرب حمص فيه ، وتحطيم أسنانه ومحاولته الغناء فلا يقدر، وحلاوة التي تم اجهاضها من الضرب تحاول التسرية عنه ب"فشرها المعتاد"  ، ويختلط ضحكهما -المبتسر-بالدموع وهي تحتضن حمص، فليس لهما غير حضن بعضهما البعض ولو لفظهما العالم بأسره.    
***
نشر بمجلة أبيض وأسود 
العدد 41 مايو 2015

May 7, 2015

رصاص فوق برودواي


رصاص فوق برودواي ..
الفنانين كهدف لرصاصات وودي آلان المبهجة ! 
أشرف نصر  
***
 Bullets Over Broadway 
اخراج : وودي آلان
 تأليف: وودي آلان -دوجلاس ماكجرث
بطولة: جون كيوزاك-ديان ويست
 انتاج: امريكي 1995  
كرة الثلج : 
يبدأ وودي الآن فيلم: رصاص فوق برودواي، بحوار قصير، مشهد واحد، وقرار يبدو بسيطا، فيتغير على أثر القبول تغير عالم بطله ، ديفيد (يؤديه الممثل جون كوزاك) كاتب مسرحي شاب، اخيرا وافق المنتج تقديم مسرحية له، والنقاش والتفصيلة الصغيرة، هو أن الممول يريد دورا لصديقته فى المسرحية، نحن فى نيويورك العشرينات ومسارح برودواي تعنى الشهرة، وإنتاج مسرحية للفنان ديفيد سينقله من عالم التنظير فى المقاهي، وجلسات المثقفين الناقمين المفلسفين لكل شيء إلى قلب  "سوق الإنتاج"،بنعيمه وجحيمه، (الطريف حقا أن "الهموم الانسانية"متشابهه لدرجة مدهشة، الانتقال -مع الفارق طبعا- وكأننا سنحضر أحد مثقفي وسط البلد "العاطلين"وسيتم إنتاج عمل له سيعرض فى رمضان مثلا ) ،، جلسات وحياة ديفيد كانت واضحة وسهلة مع حبيبته ورفاق الجلسات، حيث اللغة المشتركة، والنظرة الأحادية للعالم،وإطلاق الجمل" الفخمة "المعقدة كأنها اكتشافات فريدة،ويختلط طبعا الفنان بالمدعي فى سحابات الدخان، ولأنها"فرصة العمر"  للفنان ديفيد، يقبل بالطبع، ويقدم التنازل الصغير، لكنها تحولت ل"درس العمر" فتنازل صغير يعني كل شيء! فالفتاة صديقة الممول فتاة سيئة جدا فى التمثيل، وكل مؤهلاتها عشيقها الممول، والذي هو -ببساطة وودي آلان فى حبكاته المدهشة-"نك" رجل عصابات كبير، وزعيم مافيا، حياته اليومية جرائم لا تتوقف، الكوميديا تتفجر مع كل تفصيلة جديدة، وفى قلب كل مشهد، منتقلا بين الشخصيات ودوافعها ليدفع الأحداث للتصاعد وبشكل سلس، معتمدا على تطور ، وكرة الثلج التي تتدحرج تكبر باستمرار، وتزيد المفارقات وتتعدد مستوياتها، فلك تخيل فرقة مسرحية من الممثلة الفاشلة ، ونجمة غربت عنها الأضواء هي هيلين(قامت بالدور ديان ويست)، ونجم نهم للطعام، وشابة تبدو كمهووسة بكلبها ونكاتها .التي لا تضحك غيرها، ويقودهم "بطلنا الكاتب المخرج" ديفيد، الذي يبدو كأنه دخل بالثياب الرسمية لحضور الأوبرا فوجد نفسه فى قلب السيرك. 
خبرة الكتب فى مواجهة خبرة الحياة: 
المراوغ الجميل وودي آلان يخدعنا خدعة جديدة، وكسحره الخدع يوجه أنظارنا لشخصياته فى الفرقة المسرحية، وحتى رغم خط زعيم المافيا، وعالم الجرائم، يبدو لنا الصورة الرئيسية جو المسرحية والفرقة بشخوصها، ثم يخرج الساحر من جيبه أو من أقصي جوانب الصورة شخصية فارقة يسربها فى الحكاية، "تشيتش" (يؤديه الممثل شاز بالمينتري) بودي جارد يعينه رجل العصابات "نك" للفتاة عشيقته، وكل دوره أن يحضر العرض، كي لا يضايقها أحد،،ولأنه "تشيتش" يحضر العرض المسرحي كل ليلة، يلقى بملاحظة صغيرة ومقترحا تعديلا لحوارها، لن تصدق الأثر الذي حدث، يبدأ البودي جارد فى الاقتراحات والتعديل، حتى يتحول تدريجيا "كاتب شبح" أي أنه سيعدل النص المسرحي تماما دون أن يعلم أحد، ولتظهر  لنا هشاشة خبرة ديفيد المكتسبة من الكتب، فى مواجهة خبرات حياتية لا نهاية لها عند البودي جارد تشيتش ، الذي يقتل يعلم من يكتب، بل ويدخل لعبة الفن، فيبدأ التعامل على أنها مسرحيته، وعلى سبيل المجاملة فقط يقول لديفيد:مسرحيتنا. وبنيما ديفيد يتحول لخاتما فى اصبع النجمة الشهيرة"هيلين" التى تتحول ل"وحش" والوصف مبالغة، للبحث عن وصف لها وهي تلتهم روح وعقل ديفيد وجسد ديفيد، ليس لسواد عيونه، وهي التي ارتمى تحت قدميها من لم تعد تتذكر حتى اسماءهم، ولكن لهدف واحد، مجدها وعودة الأضواء لها عبر زيادة دورها و"ابرازه" ، فيندمج ديفيد وينسى حبيبته، وكأنه أخيرا دخل التجربة الحياتية ، تاركا البودي جارد يندمج فى لعبة الفن! 
سخرية نعم، سوداوية لا: 
وودي آلان لم يرحم نفسه من سخريته بل على العكس، انغمس فى تشريحها، وتشريح الأسرة، مجتمعات اليهود وعاداتهم،كأنه حين فعلها تحرر من أي موانع تمنعه من السخرية من العالم أجمع، حين تقع الفريسة (كأهل الفن فى فيلمنا) ينطلق كنهر جارف، يسخر من الطباع، التصرفات، التحولات، النهايات والمصائر، فديفيد هنا ليس بريئا ملائكيا، بل ينغمس رويدا رويدا فى حب هيلين، ويدخن، ويترك فنه لتعديلات تشيتش، وحتى مثله الأعلى فى جلسات المثقفين، نكتشف أنه يقدم المبررات والتنظير "ليقيم علاقة جنسية" مع حبيبة ديفيد، وكأن الجميع يمثل، وينتظر الفرص للانغماس فى التجارب، كل تلك السخرية والمفارقات، لا يقدمها وودي آلان بحكم أخلاقي طبعا، ولا بمرارة تراجيدية حتى، بل بابتسامات وضحكات تتعالي تدريجيا ، والسؤال الذي يبدو بسيطا ومتوقعا، هو السؤال المحوري فى حياة ديفيد، حين يسأل حبيبته ، هل تحب الفنان فيه أم الإنسان؟ وكعادته ينهي فيلمنا كالكثير من أفلامه بنهاية ناعمة رومانسية سعيدة، منتصرا لقصة الحب ولو على حساب الفن. يؤمن بالحب ولكن ليس على طريقة الكلاشيهات العاطفية، بل بالحب الذي مر بالعواصف، واستقر بعد التأرجح فى صخب الشهرة، الجريمة، الخيانة وتجارب الآخرين. هذه البساطة والسلاسة ليست فى حكاية وسيناريو الفيلم/أفلام وودي آلان فقط، بل فى الإخراج السهل الممتنع، والتمثيل الكوميدي الذي لا يهدف لانتزاع الضحك الخالي من التفكير، بل الأداء البسيط الهادف لرسم البسمات الصغيرة والتفكير فى المفارقات الحياتية، أو فلنسميها :هذه الكوميديا التي نعيشها ويسمونها الحياة! كل ذلك يأتي بمعا ومترابطا لأنها طريقة تفكير بالأساس، ولن نجد غالبا مشاهد صعبة تكنيكيا أو عربات تتحطم وطائرات تسقط، الخ العاب هوليود، إنما هو يحب ملاصقة الكاميرا لشخوصه، وموضوعه هو الأساس، وارتباط المشاهد بأبطاله هو الهدف دائما، ويتعامل مع الامتاع كجزء رئيس فى الفن، فحتى وهو يتناول مثلا مشاهد القتل، وعالم المافيا، يطلق القاتل الرصاص، تسقط الضحية، لا نرى الدماء والجثث،
 ينقلنا فورا للقتلة ، الذين يفكرون فورا -وببساطة -:
 هيا لنأكل !  
***
نشر بمجلة أبيض وأسود
العدد 40 أبريل 2015

Apr 22, 2015

The Imitation Game


The Imitataion Game..
 ..العالم الذي عذبته البشرية وانقذها
أشرف نصر

  فيلم: لعبة المحاكاة
 أنتاج : بريطاني-أمريكي 2014 اخراج: مورتين تيلدوم سيناريو: جراهام مور -عن كتاب: اندرو هودجز بطولة: بيندكيت كوبرياتش-كيرا نايتلي

 فاز الكاتب جراهام مور بفيلمه لعبة المحاكاة بجائزة أوسكار 2015 كأحسن سيناريو مقتبس، بعد فوز الفيلم بعدة جوائز فى مهرجانات سبقت الاوسكار، الفيلم المأخوذ عن كتاب اندرو هودجز يقدم حياة عالم الرياضيات آلان تورينج والذي كرمت اسمه ملكة انجلترا بعد مرور نصف قرن على رحيله، صورة وردية للنجاح والأضواء، لكن الفيلم يقدم لنا خشونة وآلام الواقع، آلان تورينج باختصار هو عالم نجح وفريقه الصغير فى فك شفرة آلة اعتمد عليها النظام النازي فى رسائله وكبدت صعوية فك شفرتها الحلفاء ملايين من الضحايا، نجح تورينج فى صنع آلة مضادة فكت شفرة آلة انيجما، وفاز الحلفاء فى معركة الشفرات ثم الحرب،، فالحرب ليست فقط القنابل والقتال وجها لوجه، فالصراع بين العقول كان له دوره، بل وحتى بعد الحرب كانت آلته ملهمة وبذرة اختراع الكمبيوتر فلك أن تتخيل دوره فى حياتنا المعاصرة،، لكن كيف فعلها، الطريق وحياة تورينج لم يكونا مفروشين بالورود بل عاني تورينج من البيروقراطية ومحدودي الأفق وعديمو الخيال فى تجربته، وهو ما تغلب عليه، لكن هزمه المجتمع بسبب مثليته الجنسية، فبعد اختراع آلته والفوز بالحرب يحاكم بتهمة المثلية الجنسية ويتم حقنه بهرمونات الذكورة ، فينتحر تورينج تاركا العالم "للطبيعين"  ليحصدوا ما زرعه.
فيلم بعد فيلمين:
اذكر بعد فوز "جبل بروكباك" كيف تحولت الميديا لمظاهرة للدفاع عن حقوق المثليين جنسيا، وأمريكا ل"شو ضخم"، خاصة والفيلم يطعن كبرياء الذكورة الأمريكية فى مقتل، بتقديم رعاة بقر من المثليين،والفيلم محتشد بالمشاهد الجنسية بينهم بشكل صادم مجتمعيا،، ومن نافلة القول أنه لولا الانترنت لما شاهده احد فى المنطقة العربية، المهم أن الاستدعاء هنا له علاقة بموضوع فيلم لعبة المحاكاة،  والمقارنة ستصب فى صالح لعبة المحاكاة، المشغول اكثر بأزمة البطل ومعاناته بعيدا عن إثارة ما لمشاهديه او حتى استفزازهم، وعن الشو الاعلامي لمناصرة هؤلاء ، بل هو دعوة للتفكير بعيدا عن الأحكام الأخلاقية،،لكن فنيا  كسيناريو واخراج وتمثيل ،لن تكون  كذلك أمام فيلم "العقل الجميل" حول حياة عالم الرياضيات جون ناش،والمسافة بين الهذيان والحقيقة خاصة فى العلاقة بالمخابرات الأمريكية،،
وفى لعبة المحاكاة نحن أمام علاقة بجهاز المخابرات البريطاني الذي يمول ويشرف على تجرية تورينج
 رهافة انجليزية ولمسات هودليودية مزعجة:
 اجمل ما في فيلم لعبة المحاكاة هو نسيجه العام حيث المشاهد هو من يكتشف سخرية الشخصية، وآلامها،
 ويشترك فى التجربة مع بطلها، بينما نجد فى بعض المشاهد الالحاح للتأثير على المشاهد ، والتي نخمن ادخالها فى السيناريو فى نسخ لاحقة، ولا يهم دقة التخمين، ما اعنيه، انك ستجد الفيلم يركز على تجربة تورينج، لكن الفيلم يبدأ  بمشهد سيأتي لاحقا للتحقيق معه كجذب لانتباه المشاهد ،، ومشهد اكتشاف الحل فى لقاء تعارف فى بار ، يحيلنا مباشرة لمشهد ماستر سين فى فيلم العقل الجميل، ومن تلك اللمسات الواضحة من لمسات "فورم السيناريو  الأمريكي " جاء فى مشهد جميل كتابة واخراجا وتمثيلا حينما يرفض تورينج ابلاغ الامن فورا بكسر لشفرة آلة انيجما،خوفا من معرفة الالمان ان شفرتهم تم حلها، ولو حدث ذلك لغير الألمان اعدادات آله انيجما وهو ما يعني ضياع كل التجربة ،، والمشهد يكتمل تماما مع مأزق اخلاقي وانساني انهم مضطرين لترك بعض السفن تدمر والضحايا تسقط،،ثم فجأة تجد استطرادا لابتزاز العواطف ان احد افراد الفريق يريد انقاذ سفينة شقيقه، مع حوار وتمثيل يهدم بتقليديته المشهد،وكأنه ذروة مضادة ! اما اللمسة القاتلة -فى ظني-هو تكرار رسالة أو مقولة الفيلم عدة مرات رغم ان الفيلم يطرحها فى أماكنها بشكل مناسب، ثم نفاجئ بالالحاح عليها، ونقصد جملة: اولئك الذين يظنهم الناس بلا قيمة،وحدهم من يفعلون ما لا يتصور. ورغم هذه اللمسات ستجد سياق واسلوب الفيلم فى اغلب  الوقت اكثر رهافة وبساطة، فمثلا فى مشاهد اختيار الفريق المعاون لتورينج ستجد فوتومونتاج لسكان لندن والناس تحل الكلمات المتقاطعة فى المخابئ والقنابل والغارات تتوالي، وفى قصة حب تورينج لزميله فى المدرسة ستجد اللمسات والنظرات وحتى فى القضية التي حوكم فيها.لن ترى مشاهد بينه وبين من استاجره للجنس، ومن اجمل المشاهد اللحظة التي يتم فيها ابلاغه بموت زميله، فيدخل فى لحظة انكار نفسي، حتى انه يبلغ مدير المدرسة أنه غير مهتم ولا يعنيه الأمر، فهو لم يكن يعرف الزميل بشكل كاف لصداقة، بينما نحن كمشاهدين نعرف حجم الألم النفسي ونراه فى عيون الولد الذي ادي مشاهده بشكل يوازي "وفى رأيي"يفوق الممثل البطل، بيندكيت كوبرياتش، الذي يلمع فى مراحل التجربة العلمية وتصوير العالم بخصاله التي لا تطاق، بينما يضيع واحدا من اهم المشاهد مشهد المرض أو الألم من أثر  حكم القضاء البريطاني بالحقن بالهرومانات، ، نعرف الآن أن حكما كهذا يعد من الافعال المؤثمة قانونا الآن مواثيق حقوق الانسان،وهو امر لم يشهده تورينج وغيره ممن عانوا من التمييز  الديني والجنسي الخ الخ،
قصة حب وصداقة وعمل:
الانسة والفتاة الوحيدة فى الفريق،"جون كلارك" يخطبها تورينج ثم نكتشف انه خطبها رغم مثليته لاكمال الشكل الاجتماعي امام والديها، والاهم عنده اتمام المهمة،،لكن الانسة "كلارك" من جانبها ستجدها شخصية جميلة تحبه وتصادقه وتعرف جيدا ان قصتهما محكوم عليها بالفشل ولن تتم، وادت كايلي نايتلي الدور حسب مساحته ، لان الفيلم رغم هذه العلاقة المركبة ونفسية الفتاة ركز على البطل بالأساس وهو محور الفيلم، او ما عمل عليه صناعه بعيدا عن "الاتجار"او ابتزاز المشاعر تجاه شخص سيصفه دائما الناس بأنه وحش ، او لا يطاق، او كما  تقول الترجمة الحرفية:غريب  الأطوار.، ووجدت نايتلي متنفسا فى الاداء لو صح التعبير فى مشهد جميل وهو يواجهها انه استغلها فتصفعه وهي تدوس على اسنانها وترفض ان تعود  مجرد فتاة مطلوب منها اجتماعيا دور السكرتيرة والزوجة الطيعة .
حكاية الطبيعي والمختلف:
يصل بك الفيلم لاعادة التفكير فى افعالنا ومضايقاتنا وايذاءنا وعنفنا تجاه من يختلف عنك، بينما الأصل اننا لا نتشابه بل لكل منا صفاته وميوله وطباعه والفكرة فى التعايش بين مليارات البصمات البشرية، لكن الشعارات مختلفة طبعا عما يحدث ، والا ما كانت الحروب اصلا، والتي مهما اتخذت من اسباب ظاهرية :حروب دينية، حدود، اي سبب، ستجد الحقيقة ان السبب هو اختلافنا ومحاولة طرف فرض نمطه وطبيعته لاخضاع الطرف الآخر،ربما هنا استدعاء لفيلم ثالث هو فيلم الكارتون "الاقدام السعيدة" وكيف عاني البطريق الذي يحب الرقص من البطاريق الذين يرفضون اختلافه عنهم. وسنجد فى لعبة المحاكاة كيف هزم تورينج الة انيجما عندما ادرك تشابه الأفكار بين البشر  فيقدم آلة مضادة ليهزمها.بنفس منطق  البشر تعامل هو مع الآلة !
 اخيرا:ربماا المفارقة الأكبر أن الجملة ومقولة الفيلم المكررة التي اشرت اليها سابقا ليست اجمل واهم جمله-ففى رأيي- أن الاجمل والجملة الفارقة حقا، ما يتحدث عنه آلان تورينج حول أن الناس عندما تتكلم لا تعني ما تقوله، ويريدون منك أن تجيب حسب ما بداخلهم ودوافعهم لقول ذلك. وهو سر عثرات آلان تورينج فى الحياة أنه يعني ما يقول بصدق وبشكل حرفي ومنطقي ،.لو فكرنا بصدق سنجد للأسف أننا جميعا نلعب الالعاب والحيل النفسية بشكل تصفه العامية المصرية "لف ودوران" وفى تجلي شبابي للعامية المصرية توصفه بدقة "بنحور ف الكلام"،
 نحن  هكذا للأسف!
***
نشر بمجلة أبيض وأسود
العدد 39 مارس 2015

Apr 9, 2015

4 ذكريات فى بروجرام واحد

 
عيل كالعيال، ركب القطار وذهب للمدينة، القروش قليلة لكن محسوبة بدقة، سيدخل مع الأولاد "السيما"، ويأكل طبقا من كشري سعيد أو ساندوييتشين كبدة وطبق مكرونة من كات كوت كما تقول "يافطة المحل"، وينطقها ككل الناس كتكوت، تلك التفاصيل سمعها من قبل من شقيقه وأصحابه، وربما من كل الكبار، رحلة العيل كانت مميزة كالعيد، ليس لأنها كانت فعلا فى العيد، بل لأنه مرته الأولى، ذهبوا لسيما عبد الحميد، دفعوا قروش التذاكر،،وقيل لهم ان الحفلة  4 افلام وان اول فيلم اسمه العبقري 5،، "استعيلهم" العامل وخدعهم وبدلا من اجلاسهم على الكراسي أجلسهم على الأرض، وكانت أجمل خدعة حدثت في حياة العيل اياه، هو على الأرض أسفل الشاشة الكبيرة التي صارت مهولة فى حجمها، وكانت أول لقطة سينما يراها فى حياته، زاوية الكاميرا فى اللقطة ومكان جلوس العيل وملامح علي الشريف المخيفة جعلته عملاقا، وزادته هيبة فوق هيبته وهو يدخل بالنبوت محطما أحد المخازن، فشهق العيل و"ندهته النداهة".
 2
 فى  ذلك الزمن الذي يبدو الآن كعصر بدائي، قبل الفضائيات والانترنت وقبل كل شيء تقريبا، كان من المستحيل حدوث معجزة عرض فيلم انتاج نفس السنة فى سيما عبد الحميد او سيما الفيوم،والاكثر استحالة أن يكون من أفلام مهرجان القاهرة،لكن الولد الذي اعتاد "التزويغ" من المدرسة وجد المستحيل يتحقق، فى نفس توقيت نزول فيلم " ناجي العلي" ،، عرض بسيما عبد الحميد، ربما بسبب حملة الكراهية الفاشية  التي شنت ضد الفيلم من دولة مبارك، وربما لاسباب تجارية بحته، المهم.فجأة اختفى عالم بروسلي وجاكي شان وجميلات الافلام التركية بالبكيني، وتبخرت ضحكات افلام الازواج والزوجات المصرية المتشابهة ، وجد الولد نفسه أمام فلسطين  التى يسمع عنها فى نشرات الأخبار ودعاء الجمعة ، تجسدت اخيرا أمامه بعد الغموض والأساطير، عرف ناجي الذي قتل برصاص العدو، وربما برصاص من تبول علي حدائقهم المصطنعة فى الحفل ساخرا من نضالهم المزعوم، ويقول بمرارة (الكلب اللي ينزع شجرة من ارضها ، كيف بدو يحرر بلد ) ، كأنه يرى ممثلا مختلفا عن نور الشريف الذي يعرفه فى نوعيات حبيب مهجتي والقطة الشقية واوعى تبوسني لتكهربني التي اعتادها هنا ،،ومحمود الجندي فى اروع دور له ، المصري الذي ادمن الخمر والذي ينتظر الجيوش العربية ، وطبعا لا تأتي،، كان الفيلم ك"صدمة وعي" علمته انه الافلام ليست  للتسلية فقط!
 3
  زمن كانت النجومية لممثلات من ذوات الوزن الثقيل، حجما لا تمثيلا، من سهير رمزي لهياتم لاسمها ايه صدقي! الخ الخ ، حتى بدت ناهد شريف وشمس الباردوي مسكينتين لا تجدان من يطعمهما غذاء النجمات! أدمن الولد قضاء ليالي الشتاء فى سيما الفيوم الاكثر دفئا من عبد الحميد، و طبعا قد تعلم حيل الاختفاء عن الاهل والاصحاب، واختلاق الحكايات الكاذبة كمبرر لغيابه،،وفى سيما الفيوم كان الجلوس بأعلى ليكشف السيما، فما يحدث بين المشاهدين وقليل من المشاهدات، كان اكثر متعة احيانا من فيلم سمج كفيلم قضية سميحة بدران، واهتم المراهق بعدها بنصيحة اصحابه ممن لم يشاهدوه بحضوره بسبب لقطة لهياتم تجعلم يحتملون عذاب نبيلة عبيد ، كل شيء كان طبيعيا ليلتها سوى سؤال غريب من احد الجالسين، عن مكان ليصلي فيه،،وتبريره المتكرر انه اضطر للمبيت فى المحافظة هنا ، ولم يحضر لنفس اسباب المراهق  لرؤية اجساد الممثلات، ولا للتصلص على عبث المتفرج هذا او ذاك بجسد صاحبته،،نال المصلي سخرية لا تنتهي بعدها من الولد كلما حكى الحكاية، وكلما رأى نظرات الاستنكار فى عيون من يحكي لهم بسبب حساسية الدين، لم يهتم،فقد اعتاد التكفير على اقل من ذلك، ولم يعد يمكن ابتزازه بهذا  السلاح، وظل يحضر للسينمات عامدا وليس مضطرا،كذلك الغريب ، حتى بعد سنوات الوعي بالفرق بين الأفلام وتعبئة الشرائط ،  ظل يحن لجو السيما "بعبلها" ! فيشاهد -على الكمبيوتر - افلاما ومشاهد اضعف حتى من قضية بنت بدران، لكنه يحرص أن تكون كوميدية،خاصة وأنه حينها يعاني نقص الأوكسجين فى الحياة!
 4
 صاحبنا الذي أدمن السيما اصيب بالتخمة من كثرة ما "هرس" من افلام امريكية وهندية وتركية ومصرية فصار يحضر بحكم التعود، ومرة جلس مستعدا لممثلة الوزن الثقيل ليلى علوى ومعها ممثل لم يكن مشهورا وقتها، لكنه بدا لصاحبنا المراهق "ابن لذين "فى التقبيل والاحضان وممارسة الجنس،تبين بعدها ان الممثل اسمه محمود حميدة، والفيلم اسمه انذار بالطاعة، كانت بداية لليلة سعيدة للمراهق، وكل شيء يسير فى مساره الطبيعي كسهرة سيما تنتعش بها الهرمونات،
 لكن فجأة بدأ المراهق يميل قلبه مع صوت الراديو فى خلفية الحوارات، وصورة الشارع، وطريقة المخرج بحركة الكاميرا بألفة غريبة ، وصدق وواقعية تشبه الحياة لكنها اجمل،، رغم مرارة احداث الفيلم ،ويعود عقله للتفكير وهو يرى شابين سرقا بسبب الفقر، ودخلا السجن فتغيرا تماما، وصارت اللحية عندهما اطول من احدهما- احمد ادم،-، وفكر صاحبنا فى بلدته الصغيرة التي تئن بين مطرقة الحكومات الفاسدة وسندان تجار الدين،
 لكن المشهد المرعب بالنسبة لصاحبنا، حين علم البطل بفرح حبيبته وخطبتها لغيره، دخل العاشق لينام دون كلمة واحدة، وهو على السرير والكاميرا تدخل الغرفة بهدوء ثم تركز على رأسه، وفجأة خيط دم ينزل من خلف الأذن على السرير، وقد انفجر شريان فى الرأس، من غضبه المكتوم وحزنه، وقف شعر رأس صاحبنا لحظتها ،ونالته من لحظتها لعنة "الشرود/ السرحان" حين يحدثه أحد،،متخيلا لحظة دخول أمه لتوقظه فتجده كالبطل الغارق فى دمه ،،
ثم شهد فى الجزء الأخير من الفيلم ،ما جعل قلبه  يكبر قبل الأوان بأوان، وعرفت الدموع طريقها لخده،ربما للمرة الأولى ، ربما،
ذلك حين اخذ الاب ابنته ومشيا كصديقين فى صباح باكر ، جعله المخرج من اجمل وارق تصوير الصباح وربما اجمل من الصباح فى الواقع،  الأب -سيد عزمي - هنا ممزق بين ابوته ورجولته حين علم ان ابنته مارست الجنس مع حبيبها، وفى كفة اخرى محبة الأب لابنته ولوعته لأنه مطالب بإيذاءها،، كانت لحظات فارقة ، ووداع لعبل السيما ودخوله لملكوت السينما،   ،بعدها "بخ"تبخر العالم القديم، وكبر العيل/المراهق، دار ولف فى دوائر كثيرة،، وصار من عادته النقد والمراجعة والشك فى كل ما أحب ،
لكن اليقين انه "من يومها "خرج  لكل الدوائر
 وفى القلب مدينة لها دروب وشوارع ،كتب عليها:  عاطف الطيب!