Apr 22, 2015

The Imitation Game


The Imitataion Game..
 ..العالم الذي عذبته البشرية وانقذها
أشرف نصر

  فيلم: لعبة المحاكاة
 أنتاج : بريطاني-أمريكي 2014 اخراج: مورتين تيلدوم سيناريو: جراهام مور -عن كتاب: اندرو هودجز بطولة: بيندكيت كوبرياتش-كيرا نايتلي

 فاز الكاتب جراهام مور بفيلمه لعبة المحاكاة بجائزة أوسكار 2015 كأحسن سيناريو مقتبس، بعد فوز الفيلم بعدة جوائز فى مهرجانات سبقت الاوسكار، الفيلم المأخوذ عن كتاب اندرو هودجز يقدم حياة عالم الرياضيات آلان تورينج والذي كرمت اسمه ملكة انجلترا بعد مرور نصف قرن على رحيله، صورة وردية للنجاح والأضواء، لكن الفيلم يقدم لنا خشونة وآلام الواقع، آلان تورينج باختصار هو عالم نجح وفريقه الصغير فى فك شفرة آلة اعتمد عليها النظام النازي فى رسائله وكبدت صعوية فك شفرتها الحلفاء ملايين من الضحايا، نجح تورينج فى صنع آلة مضادة فكت شفرة آلة انيجما، وفاز الحلفاء فى معركة الشفرات ثم الحرب،، فالحرب ليست فقط القنابل والقتال وجها لوجه، فالصراع بين العقول كان له دوره، بل وحتى بعد الحرب كانت آلته ملهمة وبذرة اختراع الكمبيوتر فلك أن تتخيل دوره فى حياتنا المعاصرة،، لكن كيف فعلها، الطريق وحياة تورينج لم يكونا مفروشين بالورود بل عاني تورينج من البيروقراطية ومحدودي الأفق وعديمو الخيال فى تجربته، وهو ما تغلب عليه، لكن هزمه المجتمع بسبب مثليته الجنسية، فبعد اختراع آلته والفوز بالحرب يحاكم بتهمة المثلية الجنسية ويتم حقنه بهرمونات الذكورة ، فينتحر تورينج تاركا العالم "للطبيعين"  ليحصدوا ما زرعه.
فيلم بعد فيلمين:
اذكر بعد فوز "جبل بروكباك" كيف تحولت الميديا لمظاهرة للدفاع عن حقوق المثليين جنسيا، وأمريكا ل"شو ضخم"، خاصة والفيلم يطعن كبرياء الذكورة الأمريكية فى مقتل، بتقديم رعاة بقر من المثليين،والفيلم محتشد بالمشاهد الجنسية بينهم بشكل صادم مجتمعيا،، ومن نافلة القول أنه لولا الانترنت لما شاهده احد فى المنطقة العربية، المهم أن الاستدعاء هنا له علاقة بموضوع فيلم لعبة المحاكاة،  والمقارنة ستصب فى صالح لعبة المحاكاة، المشغول اكثر بأزمة البطل ومعاناته بعيدا عن إثارة ما لمشاهديه او حتى استفزازهم، وعن الشو الاعلامي لمناصرة هؤلاء ، بل هو دعوة للتفكير بعيدا عن الأحكام الأخلاقية،،لكن فنيا  كسيناريو واخراج وتمثيل ،لن تكون  كذلك أمام فيلم "العقل الجميل" حول حياة عالم الرياضيات جون ناش،والمسافة بين الهذيان والحقيقة خاصة فى العلاقة بالمخابرات الأمريكية،،
وفى لعبة المحاكاة نحن أمام علاقة بجهاز المخابرات البريطاني الذي يمول ويشرف على تجرية تورينج
 رهافة انجليزية ولمسات هودليودية مزعجة:
 اجمل ما في فيلم لعبة المحاكاة هو نسيجه العام حيث المشاهد هو من يكتشف سخرية الشخصية، وآلامها،
 ويشترك فى التجربة مع بطلها، بينما نجد فى بعض المشاهد الالحاح للتأثير على المشاهد ، والتي نخمن ادخالها فى السيناريو فى نسخ لاحقة، ولا يهم دقة التخمين، ما اعنيه، انك ستجد الفيلم يركز على تجربة تورينج، لكن الفيلم يبدأ  بمشهد سيأتي لاحقا للتحقيق معه كجذب لانتباه المشاهد ،، ومشهد اكتشاف الحل فى لقاء تعارف فى بار ، يحيلنا مباشرة لمشهد ماستر سين فى فيلم العقل الجميل، ومن تلك اللمسات الواضحة من لمسات "فورم السيناريو  الأمريكي " جاء فى مشهد جميل كتابة واخراجا وتمثيلا حينما يرفض تورينج ابلاغ الامن فورا بكسر لشفرة آلة انيجما،خوفا من معرفة الالمان ان شفرتهم تم حلها، ولو حدث ذلك لغير الألمان اعدادات آله انيجما وهو ما يعني ضياع كل التجربة ،، والمشهد يكتمل تماما مع مأزق اخلاقي وانساني انهم مضطرين لترك بعض السفن تدمر والضحايا تسقط،،ثم فجأة تجد استطرادا لابتزاز العواطف ان احد افراد الفريق يريد انقاذ سفينة شقيقه، مع حوار وتمثيل يهدم بتقليديته المشهد،وكأنه ذروة مضادة ! اما اللمسة القاتلة -فى ظني-هو تكرار رسالة أو مقولة الفيلم عدة مرات رغم ان الفيلم يطرحها فى أماكنها بشكل مناسب، ثم نفاجئ بالالحاح عليها، ونقصد جملة: اولئك الذين يظنهم الناس بلا قيمة،وحدهم من يفعلون ما لا يتصور. ورغم هذه اللمسات ستجد سياق واسلوب الفيلم فى اغلب  الوقت اكثر رهافة وبساطة، فمثلا فى مشاهد اختيار الفريق المعاون لتورينج ستجد فوتومونتاج لسكان لندن والناس تحل الكلمات المتقاطعة فى المخابئ والقنابل والغارات تتوالي، وفى قصة حب تورينج لزميله فى المدرسة ستجد اللمسات والنظرات وحتى فى القضية التي حوكم فيها.لن ترى مشاهد بينه وبين من استاجره للجنس، ومن اجمل المشاهد اللحظة التي يتم فيها ابلاغه بموت زميله، فيدخل فى لحظة انكار نفسي، حتى انه يبلغ مدير المدرسة أنه غير مهتم ولا يعنيه الأمر، فهو لم يكن يعرف الزميل بشكل كاف لصداقة، بينما نحن كمشاهدين نعرف حجم الألم النفسي ونراه فى عيون الولد الذي ادي مشاهده بشكل يوازي "وفى رأيي"يفوق الممثل البطل، بيندكيت كوبرياتش، الذي يلمع فى مراحل التجربة العلمية وتصوير العالم بخصاله التي لا تطاق، بينما يضيع واحدا من اهم المشاهد مشهد المرض أو الألم من أثر  حكم القضاء البريطاني بالحقن بالهرومانات، ، نعرف الآن أن حكما كهذا يعد من الافعال المؤثمة قانونا الآن مواثيق حقوق الانسان،وهو امر لم يشهده تورينج وغيره ممن عانوا من التمييز  الديني والجنسي الخ الخ،
قصة حب وصداقة وعمل:
الانسة والفتاة الوحيدة فى الفريق،"جون كلارك" يخطبها تورينج ثم نكتشف انه خطبها رغم مثليته لاكمال الشكل الاجتماعي امام والديها، والاهم عنده اتمام المهمة،،لكن الانسة "كلارك" من جانبها ستجدها شخصية جميلة تحبه وتصادقه وتعرف جيدا ان قصتهما محكوم عليها بالفشل ولن تتم، وادت كايلي نايتلي الدور حسب مساحته ، لان الفيلم رغم هذه العلاقة المركبة ونفسية الفتاة ركز على البطل بالأساس وهو محور الفيلم، او ما عمل عليه صناعه بعيدا عن "الاتجار"او ابتزاز المشاعر تجاه شخص سيصفه دائما الناس بأنه وحش ، او لا يطاق، او كما  تقول الترجمة الحرفية:غريب  الأطوار.، ووجدت نايتلي متنفسا فى الاداء لو صح التعبير فى مشهد جميل وهو يواجهها انه استغلها فتصفعه وهي تدوس على اسنانها وترفض ان تعود  مجرد فتاة مطلوب منها اجتماعيا دور السكرتيرة والزوجة الطيعة .
حكاية الطبيعي والمختلف:
يصل بك الفيلم لاعادة التفكير فى افعالنا ومضايقاتنا وايذاءنا وعنفنا تجاه من يختلف عنك، بينما الأصل اننا لا نتشابه بل لكل منا صفاته وميوله وطباعه والفكرة فى التعايش بين مليارات البصمات البشرية، لكن الشعارات مختلفة طبعا عما يحدث ، والا ما كانت الحروب اصلا، والتي مهما اتخذت من اسباب ظاهرية :حروب دينية، حدود، اي سبب، ستجد الحقيقة ان السبب هو اختلافنا ومحاولة طرف فرض نمطه وطبيعته لاخضاع الطرف الآخر،ربما هنا استدعاء لفيلم ثالث هو فيلم الكارتون "الاقدام السعيدة" وكيف عاني البطريق الذي يحب الرقص من البطاريق الذين يرفضون اختلافه عنهم. وسنجد فى لعبة المحاكاة كيف هزم تورينج الة انيجما عندما ادرك تشابه الأفكار بين البشر  فيقدم آلة مضادة ليهزمها.بنفس منطق  البشر تعامل هو مع الآلة !
 اخيرا:ربماا المفارقة الأكبر أن الجملة ومقولة الفيلم المكررة التي اشرت اليها سابقا ليست اجمل واهم جمله-ففى رأيي- أن الاجمل والجملة الفارقة حقا، ما يتحدث عنه آلان تورينج حول أن الناس عندما تتكلم لا تعني ما تقوله، ويريدون منك أن تجيب حسب ما بداخلهم ودوافعهم لقول ذلك. وهو سر عثرات آلان تورينج فى الحياة أنه يعني ما يقول بصدق وبشكل حرفي ومنطقي ،.لو فكرنا بصدق سنجد للأسف أننا جميعا نلعب الالعاب والحيل النفسية بشكل تصفه العامية المصرية "لف ودوران" وفى تجلي شبابي للعامية المصرية توصفه بدقة "بنحور ف الكلام"،
 نحن  هكذا للأسف!
***
نشر بمجلة أبيض وأسود
العدد 39 مارس 2015

Apr 9, 2015

4 ذكريات فى بروجرام واحد

 
عيل كالعيال، ركب القطار وذهب للمدينة، القروش قليلة لكن محسوبة بدقة، سيدخل مع الأولاد "السيما"، ويأكل طبقا من كشري سعيد أو ساندوييتشين كبدة وطبق مكرونة من كات كوت كما تقول "يافطة المحل"، وينطقها ككل الناس كتكوت، تلك التفاصيل سمعها من قبل من شقيقه وأصحابه، وربما من كل الكبار، رحلة العيل كانت مميزة كالعيد، ليس لأنها كانت فعلا فى العيد، بل لأنه مرته الأولى، ذهبوا لسيما عبد الحميد، دفعوا قروش التذاكر،،وقيل لهم ان الحفلة  4 افلام وان اول فيلم اسمه العبقري 5،، "استعيلهم" العامل وخدعهم وبدلا من اجلاسهم على الكراسي أجلسهم على الأرض، وكانت أجمل خدعة حدثت في حياة العيل اياه، هو على الأرض أسفل الشاشة الكبيرة التي صارت مهولة فى حجمها، وكانت أول لقطة سينما يراها فى حياته، زاوية الكاميرا فى اللقطة ومكان جلوس العيل وملامح علي الشريف المخيفة جعلته عملاقا، وزادته هيبة فوق هيبته وهو يدخل بالنبوت محطما أحد المخازن، فشهق العيل و"ندهته النداهة".
 2
 فى  ذلك الزمن الذي يبدو الآن كعصر بدائي، قبل الفضائيات والانترنت وقبل كل شيء تقريبا، كان من المستحيل حدوث معجزة عرض فيلم انتاج نفس السنة فى سيما عبد الحميد او سيما الفيوم،والاكثر استحالة أن يكون من أفلام مهرجان القاهرة،لكن الولد الذي اعتاد "التزويغ" من المدرسة وجد المستحيل يتحقق، فى نفس توقيت نزول فيلم " ناجي العلي" ،، عرض بسيما عبد الحميد، ربما بسبب حملة الكراهية الفاشية  التي شنت ضد الفيلم من دولة مبارك، وربما لاسباب تجارية بحته، المهم.فجأة اختفى عالم بروسلي وجاكي شان وجميلات الافلام التركية بالبكيني، وتبخرت ضحكات افلام الازواج والزوجات المصرية المتشابهة ، وجد الولد نفسه أمام فلسطين  التى يسمع عنها فى نشرات الأخبار ودعاء الجمعة ، تجسدت اخيرا أمامه بعد الغموض والأساطير، عرف ناجي الذي قتل برصاص العدو، وربما برصاص من تبول علي حدائقهم المصطنعة فى الحفل ساخرا من نضالهم المزعوم، ويقول بمرارة (الكلب اللي ينزع شجرة من ارضها ، كيف بدو يحرر بلد ) ، كأنه يرى ممثلا مختلفا عن نور الشريف الذي يعرفه فى نوعيات حبيب مهجتي والقطة الشقية واوعى تبوسني لتكهربني التي اعتادها هنا ،،ومحمود الجندي فى اروع دور له ، المصري الذي ادمن الخمر والذي ينتظر الجيوش العربية ، وطبعا لا تأتي،، كان الفيلم ك"صدمة وعي" علمته انه الافلام ليست  للتسلية فقط!
 3
  زمن كانت النجومية لممثلات من ذوات الوزن الثقيل، حجما لا تمثيلا، من سهير رمزي لهياتم لاسمها ايه صدقي! الخ الخ ، حتى بدت ناهد شريف وشمس الباردوي مسكينتين لا تجدان من يطعمهما غذاء النجمات! أدمن الولد قضاء ليالي الشتاء فى سيما الفيوم الاكثر دفئا من عبد الحميد، و طبعا قد تعلم حيل الاختفاء عن الاهل والاصحاب، واختلاق الحكايات الكاذبة كمبرر لغيابه،،وفى سيما الفيوم كان الجلوس بأعلى ليكشف السيما، فما يحدث بين المشاهدين وقليل من المشاهدات، كان اكثر متعة احيانا من فيلم سمج كفيلم قضية سميحة بدران، واهتم المراهق بعدها بنصيحة اصحابه ممن لم يشاهدوه بحضوره بسبب لقطة لهياتم تجعلم يحتملون عذاب نبيلة عبيد ، كل شيء كان طبيعيا ليلتها سوى سؤال غريب من احد الجالسين، عن مكان ليصلي فيه،،وتبريره المتكرر انه اضطر للمبيت فى المحافظة هنا ، ولم يحضر لنفس اسباب المراهق  لرؤية اجساد الممثلات، ولا للتصلص على عبث المتفرج هذا او ذاك بجسد صاحبته،،نال المصلي سخرية لا تنتهي بعدها من الولد كلما حكى الحكاية، وكلما رأى نظرات الاستنكار فى عيون من يحكي لهم بسبب حساسية الدين، لم يهتم،فقد اعتاد التكفير على اقل من ذلك، ولم يعد يمكن ابتزازه بهذا  السلاح، وظل يحضر للسينمات عامدا وليس مضطرا،كذلك الغريب ، حتى بعد سنوات الوعي بالفرق بين الأفلام وتعبئة الشرائط ،  ظل يحن لجو السيما "بعبلها" ! فيشاهد -على الكمبيوتر - افلاما ومشاهد اضعف حتى من قضية بنت بدران، لكنه يحرص أن تكون كوميدية،خاصة وأنه حينها يعاني نقص الأوكسجين فى الحياة!
 4
 صاحبنا الذي أدمن السيما اصيب بالتخمة من كثرة ما "هرس" من افلام امريكية وهندية وتركية ومصرية فصار يحضر بحكم التعود، ومرة جلس مستعدا لممثلة الوزن الثقيل ليلى علوى ومعها ممثل لم يكن مشهورا وقتها، لكنه بدا لصاحبنا المراهق "ابن لذين "فى التقبيل والاحضان وممارسة الجنس،تبين بعدها ان الممثل اسمه محمود حميدة، والفيلم اسمه انذار بالطاعة، كانت بداية لليلة سعيدة للمراهق، وكل شيء يسير فى مساره الطبيعي كسهرة سيما تنتعش بها الهرمونات،
 لكن فجأة بدأ المراهق يميل قلبه مع صوت الراديو فى خلفية الحوارات، وصورة الشارع، وطريقة المخرج بحركة الكاميرا بألفة غريبة ، وصدق وواقعية تشبه الحياة لكنها اجمل،، رغم مرارة احداث الفيلم ،ويعود عقله للتفكير وهو يرى شابين سرقا بسبب الفقر، ودخلا السجن فتغيرا تماما، وصارت اللحية عندهما اطول من احدهما- احمد ادم،-، وفكر صاحبنا فى بلدته الصغيرة التي تئن بين مطرقة الحكومات الفاسدة وسندان تجار الدين،
 لكن المشهد المرعب بالنسبة لصاحبنا، حين علم البطل بفرح حبيبته وخطبتها لغيره، دخل العاشق لينام دون كلمة واحدة، وهو على السرير والكاميرا تدخل الغرفة بهدوء ثم تركز على رأسه، وفجأة خيط دم ينزل من خلف الأذن على السرير، وقد انفجر شريان فى الرأس، من غضبه المكتوم وحزنه، وقف شعر رأس صاحبنا لحظتها ،ونالته من لحظتها لعنة "الشرود/ السرحان" حين يحدثه أحد،،متخيلا لحظة دخول أمه لتوقظه فتجده كالبطل الغارق فى دمه ،،
ثم شهد فى الجزء الأخير من الفيلم ،ما جعل قلبه  يكبر قبل الأوان بأوان، وعرفت الدموع طريقها لخده،ربما للمرة الأولى ، ربما،
ذلك حين اخذ الاب ابنته ومشيا كصديقين فى صباح باكر ، جعله المخرج من اجمل وارق تصوير الصباح وربما اجمل من الصباح فى الواقع،  الأب -سيد عزمي - هنا ممزق بين ابوته ورجولته حين علم ان ابنته مارست الجنس مع حبيبها، وفى كفة اخرى محبة الأب لابنته ولوعته لأنه مطالب بإيذاءها،، كانت لحظات فارقة ، ووداع لعبل السيما ودخوله لملكوت السينما،   ،بعدها "بخ"تبخر العالم القديم، وكبر العيل/المراهق، دار ولف فى دوائر كثيرة،، وصار من عادته النقد والمراجعة والشك فى كل ما أحب ،
لكن اليقين انه "من يومها "خرج  لكل الدوائر
 وفى القلب مدينة لها دروب وشوارع ،كتب عليها:  عاطف الطيب!

Apr 3, 2015

الطوق والاسورة ..النار هي الاصل !



الطوق والاسورة
النار هي الاصل !
أشرف نصر

لم يذهب خيري بشارة إلى قرية الكرنك بالأقصر، حاملا الكاميرا ليصور، بل ذهب فاتحا نوافذ القلب أولا ليحس قبل أن" يعبر " ومرتشفا كالنحل بعقله وعيونه "ليجسد" مستخلصا عصارة القرية،وناسها، فى تجربة كهذه يشعرك المخرج بحرارة الشمس وصهد القيالة وراحة الطوب اللبن فى البيوت، غبار  الشارع ووحشته وحنان نسيم الأمسيات العابر على شخوص مهما قست الحياة عليهم ، يريدون الحق الأول بين كل الحقوق، حق الحياة،
،،فى البدء كانت الكلمة ، والشرارة من نص أدبي كتبه البديع يحيى الطاهر عبد الله، "الطاهر "يحيى "هذا هب على العالم كعاصفة حلوة حاملا  شفاهية الأهل فى مواجهة تقاليد الكتابية المنقولة من الغرب فى فن السرد، قصة ورواية ، حاملا تراثا لا ينضب من الحكايات جمعه من تراث الأجداد العرب فى  ألف ليلة وليلة وغيرها ممزوجا بحكايات الجدات من الصعيد، ورفاق الدرب ممن تصعلك معهم فى دروب العاصمة،،جمع كل هذا وغزله وحكاه شفاهه لمعاصريه على المقاهي وكتابة لنا تحمل عنفوان وتدفق تلك الشفاهية، فأجمل لحظات القراءة لنصوصه تأتي ونحن نتلوها بصوت مرتفع ! كتب المخرج النص السينمائي بمشاركة يحيى عزمي، وعبد الرحمن الأبنودي ، والأول أستاذ أكاديمي كبير بأكاديمية الفنون استفاد منه خاصة طلاب السيناريو والإخراج، والثاني أحد أساتذة الشعر العامي وايضا رفيق درب ليحيى الطاهر فى رحلته السريعة زمنيا /الطويلة أثرا وتأثيرا. ،جاءت الكتابة من الأربعة  الأديب ، المخرج، السيناريست، والشاعر عن شخوص قرية الكرنك وجسدها : شريهان وفردوس عبد الحميد  وعزت العلايلي وأحمد عبد العزيز وعبد الله محمود ومحمد منير ، 
لن نكون أمام  علاقة تعلي من عنصر  الزمن وتجعله حاكما للمكان كالمومياء مثلا، بل أمام علاقة المكان بالشخصيات ، وأثر المكان الثقيل الوطء على تلك الشخصيات حتى أن الزمن يبهت ولا يصبح إلا أرقاما تتوالى ، والمأساة مستمرة ولو فى تكرار لشخوص آخرين ، يحفرون جدراية من لحم ودم لبشر نسيتهم الدولة والعالم وتحت رحي الظروف يكابدون رعب احتمال نسيان السماء لهم ولمأساتهم..هنا حزينة وبخيت البشاري ونسلهم وجيرانهم البؤساء مورس عليهم قهر العادات والقيود المجتمعية وفى سلسة القهر المستمر يمارسونه حتى على أنفسهم، كل ذلك بفعل قوى وقيود غير مرئية كأنه صراع الانسان ضد القدر فى تراجيديا يونانية نبيلة ومؤلمة، اخطر  واقسى انواع الصراع هو ما يكون ضد قوى مجردة وأفكار وعادات وتقاليد تكبل الجسد وتقتل الروح الراغبة فى الحرية،
، يبدأ  بشارة رحلته/رحلتنا مع كادر ثابت لطيور  على سطح النيل ومع موسيقى بالطابع الجنائزي قدمها انتصار عبد الفتاح، ندخل لغناء أو دندنة الجميلة فهيمة بنت حزينة وبخيت البشاري ، فهيمة شابة ، واقعة بين أم هي كتلة من الحزن كإسمها، وأب كتلة من العجز واللسان اللاذع، فى الفيلم ستجد الذكور تنويعات من العجز  ، من بخيت البشاري العاجز بالشلل لزوج فهيمة الحداد العاجز جنسيا، حتى البطل والمخلص كما ظنوا ونعنى مصطفى عاجز بالفقر،، وفى ألعاب التعويض النفسي يمارس الأب بخيت السخرية وابنه مصطفى بال"الفشر/المبالغات"عن بطولاته فى الغربة ، واعنفهم الحداد يضرب فهيمة ، يطلقها، ثم يحرق زوجته الجديدة، فى مقابل العنف الذكوري سنجد الأناث يحاولن الحياة والبحث عن الخصوبة، فلسن جميعا كحزينة الراضية بألألم، الكئيبة التي لا تجيد الفرح،،ففهيمة تحب زوجها الحداد، وحاولت تضميد جراحه بالحب ، وارتضت بالذهاب للمعبد "للتلقيح"من غيره، ارضاء لمجتمعها، ورغم كل محاولاتها طلقت وظلمت، وماتت بحمى النفاس وقد وقع الفقر والجهل وثيقة الموت بيد المعالج الجاهل،،
واذا كان رجال الفيلم من حجارة كحجارة حضارة غربت ، وتقاليد قبلية عربية تكره الحياة وتبحث عن العنف وتبرر القتل تحت مسمى الشرف لكن خصوبة النساء كخصوبة الأرض فتنجب كما يهلل الأطفال فى دروب القرية:فهيمة بنت حزينة جابت بنت، اسمتها -فى مفارقة - فرحة أو فرحانة التى تكمل الدائرة لنقطة البداية من جديد، وتدفع الثمن حياتها على يد ذكر آخر يطمع فيه كزوجة له ، وحين يفقدها يتعلل بالشرف ليقتلها، متباهيا كفارس، حقق ما تمليه "الرجولة" كل تلك المفاهيم "النسوية/الأنثوية  "تأتي هنا كهمس لا كصراخ، كوجع لا كتناطح، تتسلل دائما بين الكادرات والمشاهد والأحداث،، لأن الأساس بدأ من فكرة أنهم بشر لهم حياتهم وأوجاعهم، وليسوا بضاعة أو سلعة أو فئران تجارب لآخر يتعالى عليهم بمفاهيم غربية ،،بل يتوجع الفيلم معهم بشكل انساني وكلمات وأفكار انسانية يطرحها محمد أفندي المتعلم الوحيد، بشكل حديث بعيدا عن تعليم الكتاتيب وخلافه،
 ففى واحد من أجمل المشاهد -والحقيقة أن اختيار الأجمل أمر صعب فى سبيكة الجمال هنا- للحداد "أحمد عبد العزيز" العرق ينضح على جسده، وزوجته فهيمة تحاوره ربما النار هي سر العجز فيدافع عن نفسه ، لولا النار ما كان الانسان ، فتحاول مرة اخيرة افهامه فلولا النار ما كان ابليس وليس الانسان، ويختتم المشهد بالحداد يطلق الرصاص على الكلب..باحثة عن الحب تواجه باحث عن قوة، وهو عنين يعوض فعلته بعنف وقسوة على كائن اضعف، والحقيقة المؤلمة للذكورة والأنوثة معا وبفعل القيود والأساور التي تكبل الجميع أن النار ظلت الأصل فعلا، فقد انهى الحداد بها حياته وزوجته الجديدة رغم رضاء المحتمع عن الزيجة، لكن وحده يعلم بخيانتها له فى البر الغربي، أو يظن أنها لابد فاعلة ذلك طالما لم يقهرها الحب وخيبة الأمل في عجزه، وبقائها على حبها للحياة ! 
المخرج هنا بمنطق البشر لا يبحث عن شكل "استشراقي"فى الأفراح أو زيارة الأضرحة أو غيره من طقوس شعبية فهو روح أبطاله،، لا يشغله "ابهار"عين متلقيه بل مخاطبة عقله وروحه بما يشغل أبطاله فى طقوسهم هذه،، فى الفرح يدلنا بإشارة صغيرة لهزة رأس محمد أفندى المتأسية على أحوال البلد،،ففرح فهيمة لم يكن لوجه الله ، بل ضمن صفقة بين التاجر والحاكم هنا وهو العمدة بمباركة رجل الدين الشيخ هارون لافتتاح طاحونة بالبلد،،المثلث المشترك والرشوة المدفوعة وفرح بنت حزينة كلها خطوط تتلاقى فى المشهد و"كادر"محمد أفندي المتألم لبلده وأحوالها،،نفس الطاحونة التي ستشهد  مأساة فرحة فيما بعد. تماما كما هي عودة "مغاوير"حرب 48 ومحمد أفندى يلقى الشعر الحماسي الدعائي ، ولا أحد يهتم، بل هناك من فقدت ابنها -عبد الحكم رفيق مصطفى فى الغربة -ثم بعد عودة مصطفى نفسه سنجد أن بطولاته أقرب لأفعال اللصوص، لكن الناس هي التي تقرر فيما بعد من تصنفه بطلا مقاوما للانجليز والاستعمار، ومن تصنفه لصا، كحال كتابة التاريخ، حسب زاوية الرؤية والمصالح! 
حالة التركيز الخالصة التى عاشها ونقلها لنا المخرج، تجعل هزة رأس محمد أفندي مجرد واحدة من العديد من التفاصيل البصرية التي تغني عن الحوار وتصرح بالمشاعر وتخبرنا عما بين السطور، فقبلها هزة رأس بأسى أيضا يفعلها بخيت البشاري، حين يداعب ابنته أن تعزل الدجاجة المريضة عن غيرها، وحين تستعيذ الابنة من الشر عنه، يأسى هو بحق، فهو أعلم الناس بأن الشر قد وقع،، وفى فلاش باك يتكرر نرى فهيمة طفلة وشقيقها مصطفى الطفل يدخن مقلدا الرجال ، فكأننا نلمح مع خصوصية علاقتهما ،،بدايات مصائر ودوائر أدوارهم الحياتية،وأبدع تلك التفاصيل هو تفصيلة علامة الأنوثة تظهر كبقعة على ثوب فرحة وهي تجري بطفولة ولأن الشاب المراهق رآها يساعدها على الوقوف وهي تداري ثوبها، لكن فات الأوان فقد حق عليهما قانون الطبيعة فى العلاقة، والتي لم نعد حتى بحاجة لرؤيتها بعد تلك الإشارة ، حتى الأشواق المكبوتة فى صدور شخوصنا نحسها ببلاغة بصرية وبأقل الجمل والمشاهد،،مثل فهيمة التي تكتحل قبل ذهابها لتسلم عبد الحكم صديق شقيقها زيارة لشقيقها، يسلم عليها بحرارة الشوق المتبادل،
 اختتم ، بمشهد جاء فى منتصف الفيلم ، حكاية ليست بالعابرة أبدا، يبدأ المشهد ببروفيل لوجه فهيمة بعيينها الجميلتين مكحولتين، كأننا أمام وجه نفرتيتي، ثم نجدها كشهرزاد تحكي للحداد حكاية من الحكايات، وفى الحكاية بائع كلام، كل كلمة تنجي بطل الحكاية من الموت، الكلمات كانت الأولى:حبيبك اللي تحبه ولو كان عبد نوبي،،والثانية :ساعة الحظ متتعوضش،، والثالثة:من آمنك لم تخونه ولو كنت خاين..، أمثال من قلب التراث الشعبي، لو بحثت في حكاية الفيلم وفتحت العلب الصغيرة المتتالية داخل العلبة الأكبر ستجدها مفاتيح  حياة شخوص بيت البشاري الذي دخلناه فى الفيلم، وخرجنا منه نحلم بنفس كادر البداية والنهاية ، طيور تحلق بعيدا عن تلك القيود ، والنار  المحرقة !
***
نشر بمجلة أبيض وأسود
العدد 38 فبراير 2015