Jul 20, 2010

دراسات نقدية 2


قراءة في المجموعة القصصية : صوت الكمان


المشهد البصري في قصص أشرف نصر

الروائي والناقد: سيد الوكيل*

تقدم مجموعة (صوت الكمان) نموذجا جيدا لكاتب موهوب يبدأ تجاربه الأولى فكدأب الكتابات الأولى يسعى كتابها –عادة- إلى الاستفادة دفعة واحدة من كل الإمكانات المتاحة له في محاولة لتثبيت وجوده على المشهد الأدبي سريعا وهو في غمار ذلك يميل إلى استخدام طرائق متعددة للسرد وهو أمر يبدو ميزة للكشف عن قدراته المتعددة ولكنه من جانب آخر يحرمه من فرصة الوقوف على خصائصه المميزة سواء في اختياره لطرائق التعبير أو في اختيار عوالمه القصصية ومن ثم فإن التجارب التالية تبشر بنضج كبير وعمق فني واكتشاف لمناطق تميزه.

ورغم ذلك يمكن القول وبكثير من الثقة إن تجربة (أشرف نصر) الأولى تؤسس بوعي باكر لهذا النضج ولاسيما في القسم الأول من المجموعة حيث تقسم المجموعة إلى أربعة أقسام لا يضع لأي منها عنوانا رئيسا مما يوحي بعدم رغبته في الفصل التام بينها غير أن قراءة مدققة لقصص كل قسم تكشف عن وعيه بضرورة المييز بينها وحيث يقوم هذا التمايز على اعتبارات شكلانية أسلوبية في أغلب الأحيان بحيث يمكن للقارئ اكتشاف التمايز الشكلي لقصص القسم الثاني بمجرد النظرة الأولي لكن قصص القسم الأول تبدو لي بمثابة الأفق الأكثر اتساعا لاحتواء إمكاناته الفنية فمثلا في قصة (فصول) من القسم الأول نجده يصغي جيدا للتداعيات الزمنية في العنوان ومن ثم يقوم بتقسيم القصة إلى أربعة أجزاء( خريف- صيف- ربيع- شتاء) وهكذا يجئ التقسيم مبررا فنيا، على عكس ما نجد في قصة الفقيد –مثلا- من قصص القسم الثاني حيث التقسيم مجرد حيلة شكلية تجهد القارئ بلا مبرر.

وفي قصة (فصول) يجئ التقسيم دون اعتداد كبير للترتيب الزمني للفصول مما يكشف عن رغبة في مشاكسة الزمن وكسر تتابعه وإذا كانت هذه القصة تقوم على المفارقة التي تأتي في نهاية النص إلا أنها أيضا مفارقات فنية نابعة من الحدث الذي يعطيها عمقا دراميا لا نجده-أيضا- في المفارقات المباشرة التي في القسم الثاني من أقسام المجموعة.

وثمة عامل مشترك آخر بين (فصول) من قصص القسم الأول وبين قصص القسم الثاني غير التقسيم والمفارقة وهذا العامل هو تقليص مساحات السرد إلى أقصى حد ممكن لكنه في (فصول) يعثر عن كثافة واحتشاد فيما يكون في قصة (تنويعات غربة) من القسم الثاني مجرد إشارات تلغرافية سريعة تحقق الاختزال لا الكثافة أما الحوار الذي يكون عنصرا من عناصر السرد المتميز في قصص القسم الأول فإنه يتحول إلى مجرد حيلة ساذجة في قصة مثل (تنويعات غربة) من قصص القسم الثاني وهذا نموذج مفترض أنه مكتمل ودال بذاته لكنه لا يزيد عن مجرد نكتة

- الو -الو

- هل تسمعني؟

- نعم.

-إذن إلى اللقاء.

بوسع أحدنا أن يتساءل عن التأويل هنا ليعطي المعني قيمة ما ولكننا في القص لا نتحدث عن تأويل الأفكار بقدر ما نفسر الحياة نفسها.

ربما هذه مقدمة ضرورية من ناحيتنا للتأكيد على أن قصص القسم الأول هي الأكثر اكتمالا وفنية ومن ثم يمكنها أن تحمل في طياتها الخصائص المميزة للقاص ولا يمنع هذا أن قصصا كثيرة في الأقسام الأخرى على مستوى طيب من الجمال الفني.

إن قصص القسم الأول وحدها تكفي للتأكيد على موهبة القاص وإمكاناته المتعددة التي أسرف في استعراضها في قصص القسم الثاني والثالث ،

وقصة ( بيت صغير يطل على شوارع عديدة) أول قصص القسم الأول تكشف لنا عن الإمكانات الأكثر نضجا وتميزا عند أشرف نصر وهي ذلك الوعي البصري بالعالم حوله والذي يمكنه من إثبات قدراته على فتح آفاق للسرد الفني بعيدا عن حاكمية الحدث أو بعيدا عن الشخصية وحضورها المهمين على الحدث.

الحدث والشخصية هما أكثر مقومات الفن القصصي تداولا وقليل جدا هم الكتاب الذين يمكنهم إقامة بناء قصصي بعيدا عن حاكمية الحدث والشخصية ويبدو السرد المشهدى هو أحد اتجاهات القص الحديث باعتباره أحد تجليات الإدراك الحسي ويعول عليه في تحرير النص من الذهنية التجريدية والاستعراض الثقافي وحيث يكون السرد –بعيدا عنهما- أكثر شخصانية والتصاقا بالواقع المعيش ويقترب من مفهوم السيرة الذاتية أكثر منه توليفا واختراعا.

وكتابات على هذا النحو من الرغبة في ملاقاة الواقع اليومي تنظر إلى الذات بوصفها مكونا خاصا ومتفردا وهو بذلك لا يتكون من كليات أو مركزيات ثقافية متداولة أو مكررة بقدر ما في دقائق ونثارات تتميز بنوع من الخبرات الشخصية والمزاج النفسي.

إنها ذات تبدأ بالممارسات اليومية والمصادفات الطارئة والخبرات الصغيرة والحسية لتنتهي إلى المعرفة الشخصية وهى في أثناء ذلك يمكنها أن تهضم تاريخية الاشياء لتصبح جزءا من مكوناتها شريطة أن يكون حيا وفاعلا فيها على نحو ما.

إن الوعي البصري الذي يتم تنميته عبر وسائط الاتصال المعرفي الحديث كالسينما والتلفزيون واقتران ذلك بشكل المجتمع المدني الحديث الذي لم يعد يقوم على مجموعة من المعارف الأولية يمكن إدراكها بالحدس المباشر أو إدراجها داخل أطر معرفية صريحة إنما تحتاج لكثرة تنوعها وتشابكها على اختبارها عبر التجربة الحية والممارسة أكثر من الحلم بها وهو أمر لا يوفر للشخصية رؤية واضحة عبر منظور كلى أو عميق وإنما يقف عند حد السطح منها هذا السطح العاكس الذي يمكن استقباله عبر الحواس.

وهذا النسيج الاجتماعي الأكثر تعقيدا يبدو حاضرا في وعي (أشرف نصر) منذ القصة الأولى ولكنه يعبر عنه بشكل مباشر في قصة (القصة) من قصص القسم الرابع وكأنه يبعث لنا برسالة من خلالها تعكس أرقه لأن الفن القصصي لم يعد قادرا على فك الاشتباك أو الإحاطة بالتعدد الذي يفعم الواقع حوله وهكذا فالقصة نفسها تتحول إلى أمنية لا تتحقق غالبا وطموح لا يصل لغايته ومن ثم يبدأ قصته بجملة دالة هي ( سأكتب قصة ليس لها مثيل) ومن الطريف أنه لم يحدد مواصفات القصة التي يتمني كتابتها ولكنه على العكس يقدم قائمة من المرفوضات التي لا يتمني أن يجدها في قصته والتي يتصور أنها غير جديرة بتحقيق (القصة) الأمنية وسوف يدهشنا أن كشف المرفوضات يعج بالكثير من المقومات والتيمات القصصية المعروفة يقول

( لن أكتب أسطورة أو احكي عن ليالي ألف ليلة ولن أبحث فيما وراء الطبيعة ،لن أسخر ولن أكون جافا لن أدخل الفلاش باك أو استعين بالتناص لن أضع العناوين الجانبية لن أضع الأرقام...إلخ).

وسوف نلاحظ أن قائمة المفردات هذه والتي تكشف عن وعيه ورغبته في تجاوز الحيل والأنماط المألوفة للقص نجد الكثير منها في قصصه أي أنه يدرك حجم المفارقة الحادة بين معطيات التاريخ الأدبي وطموح القاص الجديد ابن واقع يتغير بين يوم وليلة تغيرا مذهلا هذا التغير الذي يزيد من حجم المسافة الفارقة بين الوعي والواقع.

إن (أشرف نصر) يبدو شديد الوعي بأزمة الفرد في مواجهة المجتمع المدني بتعقده وتعدد وتسارع متغيراته ومن ثم فهو يجد بدا من البحث عن وعي جديد يمكنه قراءة الواقع على قدر أكثر تحقيقا للطموح وهكذا يبدو الحدس والمعارف الذهنية والفلسفية والمسلمات الأيدلوجية والثوابت المتوارثة تصبح كلها وسائط مشكوك في قدرتها وقيمتها وتصبح التجارب الشخصية والخبرات الحية والذاكرة الفردية والممارسات الحسية بديلا مقترحا.

ففي عصر إنتاج المعرفة يصبح الوعي بالواقع متجاوزا لمعطيات وإمكاناته ..إنها صورة أخرى من صور الحلم تختلف تماما عن أحلام النوم أو أحلام اليقظة التي يعول عليها فرويد باعتبارها مرجعيات للاوعى إن أحلام اليوم تنطلق-على العكس – من وعي حاد بطبيعة التركيبة المتناقضة بين المعرفة بالواقع والرغبة في تجاوزه والمحصلة أننا لا نحقق هذا التجاوز للواقع إلا عن طريق خلق واقع بديل واقع وهمي(سيمولوجيي) ثم تحطيمه مثلما يحدث في ألعاب الفيديو جيم.

ففي قصة( بيت صغير يطل على شوارع عديدة) يعكس العنوان نفس القلق تجاه الإمكانات المحدودة في مواجهة الواقع الفسيح المتجدد ،فالبيت على الرغم من صغره وقدمه يظل لافتا للإنتباه ومثيرا للجدل على الرغم من أنه يبدو فاقد الاتصال بالواقع من حوله وغير آبه بالشوارع العديدة والبنايات والمحال الجديدة مما يجعله مثيرا للسخرية والطمع فيه.

إن البيت الصغير القديم يقف هكذا بمثابة معطي تاريخي لم يعد مقنعا لأحد سوى مجموعة من العجائز الذين يثرثرون قصصا عن حياة قديمة كانت هنا،في حين أنه الآن (لا تبدو علية مظاهر حياة) وفي حين يتحرك الواقع من حوله (وقد امتلأت بالمكاتب والمحلات الكبيرة وبدأت تدخلها صالات البلياردو وألعاب الفيديو جيم) .

والسخرية من البيت القديم لا تعني على الإطلاق الإعجاب بالواقع المتغير حوله ولا يعني أن كلا منهما نقيض للآخر فالواقع حول البيت لا يعكس تطورا حضاريا حقيقيا بقدر ما يعكس زيفا مدنيا لا يقل إحباطه لنا عن البيت القديم أنه واقع وهمي مثل ألعاب الفيديو جيم أو هو في الحقيقة صورة عن الواقع وبين جمود البيت الصغير وتآكله وبين تمدد الواقع الوهي تقع الذات الساردة ويبرز هذا النزوع المأسوي في القصة.

ولكننا لا نرى هذا الموقف المأساوي الذي وجدناه عند أحمد طوسون* ذلك المقترن بتحنان إلى القديم هروبا من زيف الواقع الجديد بل سنجده موقفا مأساويا ينعى ذاته التي لم تعد ترى في القديم قيمة ولا في الجديد بديلا ومن ثم فهو يقابل هذا القدم بنوع من الاستهانة والتساؤل عن جدواه والتفكير في هدمه تماما لكن شيئا غامضا يجعل البعض متمسكا بضرورة وجوده ويجعلهم ينسجون حوله الأساطير والحكايات التي يقوم عليها شاهد حي غير بائع الجرائد العجوز الذي يحكى عن صديقه الذي استشهد ولده ثم دفنه في البيت وبإنتاج المعرفة حول البيت نتجاوز واقعه البائس ،أن بائع الجرائد هنا يمثل الذاكرة الجمعية لكن الراوي ليست له نفس الذاكرة وليست له نفس الخبرة الحية إنه ذات متفردة لها وسائلها الخاصة في المعرفة ومن ثم فهو ينظر إلى الحكاية كلها باستهانة ولا يجد فيها ما يخصه لأن الذات هنا هي مرتكز فردي لا تحفل بالواقع حولها لأنه موزع بين قديم متداع وجديد زائف أن هذا البيت الذي يقف وحيدا بلا مستقبل يبدو منقطع الصلة مما حوله من مظاهر التعدد والاشتباك من شوارع عديدة وهو بذلك يختلف عن بيت أحمد طوسون المفعم بالحميمية والدفء ،

إن بيت أشرف نصر لا أمل فيه فيما يظل بيت طوسون قادرا على تصحيح مسار الراوية ومنحه السلام الداخلي، وهذه المفارقة تعكس طبيعة الوعي عند كل منهما.

وإذا كانت قصة( بيت صغير يطل على شوارع عديدة) تبرز الوعي البصري والمشهدي الموهم بالواقع(التخييلى) فإنه قصة (أناس عربة الشتاء) تبرز التقنيات الفنية والأسلوبية التي تسهم في إنتاج هذا الواقع التخييلى ومن ثم سنجد حضورا لتقنيات إنتاج الصورة السينمائية حيث يبرز المكان (كبلاتوه) كمسرح للأحداث لحركة الشخصيات مع التحفظ على مصطلح (الأحداث) هنا فنحن لا نجد حدثا بالمعني التقليدي ،فقط مجرد مثير، والمكان نفسه هو المثير لحركة الشخصيات،وبالتالي فإن حركتها محدودة بالمكان نفسه ومن إنتاجه أي أنها ليست حركة حرة بل مقيدة بإمكانات البلاتوه والاكسسوارات وزمن المشهد (ليلى).

إننا نشهد –مثلا- في سياق البلاتوه لقطات سريعة متتابعة من زوايا مختلفة يمثل كل منها "كادرا"صغيرا توضع في نسق كلى يؤلف المشهد وينتج الدلالة وتكشف-أيضا- عن الطبيعة الجسدية والنفسية للشخوص ،عجوز قلقة طفل منكمش شاب عابث فتاة راغبة رجل متجهم سائق ضجر.

وسف نكتشف أبعاد الشخصيات بلمسات سريعة ومقتضبة من خلال الإيماءات والحركات غير المكتملة والمحدودة بحدود المكان ومن خلال كلمات قليلة عابرة تملأ فراغا تتركه الصورة وسنلحظ إن الشخصيات لا تسعى إلى إقامة علاقات مكتملة مع بعضها فهي على وعى طوال الوقت بالطبيعة المؤقتة للمكان ومن ثم أشكال التواصل بين شخصيات المكان مصطنعة ولذلك فهي لا تأخذ شكل الحوارات بقدر ما هيتعليقات بلا رصيد عند قائلها ( هو السواق مستعجل ليه) (يا عم شغل نار يا حبيبي نار)

أما أشكال التواصل الأخرى فتبدو بمعزل عن القصدية كأن تتم تتم عبر تداخل ظلال الشخصيات تحت المصباح الشحيح أو حلقات بخار الماء المتصاعدة من الأفواه أو الإنصات بدرجات متفاوتة إلى أغنية من كاسيت السيارة.

وعلى الغرم من خلو النص تماما من أي بعد (فانتازى) إلا أن المكان الضيق جدا والحركة المحدودة والإضاءة الشحيحة والليل والبرد وصوت المطر في الخارج أضفت على المشهد كله إحساسا كابوسيا وكأنه واحد من أفلام (هيتشكوك).

وفى ظني أن هذه واحدة من القصص القليلة التي لا ينساها القارئ حتى لو فقد تفاصيلها.

ويحقق (أشرف) نجاحا كبيرا في التعامل مع بدايات القصص ونهاياتها يكشف عن واحدة من إمكاناته الجيدة وفي تصوري- كقاص- إن البدايات هي التي تحدد علاقة المبدع بالنص وتؤسس لجمالياته فيما تكون النهايات هي الأبواب المغلقة باتساع والتي تحدد وجود النص بشكل مستقل عن صاحبه بحيث يبدأ النص بعدها دخوله في سياق جمالي ومعرفي متداول أي أن النص ينتهي باستنفاد معطياته الجمالية ،ليس بالضرورة أن تكون النهايات في السطور الأخيرة للنص ولكنها في اللحظة التي يبدأ بإجابة على سؤال يمكننا تخمينه بسهولة ،الإجابة تقول (متضايق علشان الدنيا برد) وتأتي على لسان شاب يضطر بدافع من الخجل أن يدفع فتاة معوقة على كرسي متحرك في طريقها إلى العمل ولابد أن السؤال الذي على القارئ أن يخمنه سيكون من الفتاة المعاقة ويعنى إن كان الشاب يجد مهمة دفع كرسي متحرك عبئا يسبب له الضيق؟

إن الإعاقة الجسدية التي تعانيها الفتاة تقابلها إعاقة نفسية لدى الشاب تضع حاجزا من (الغيوم) بينه وبين العالم.

والقصة بعد ذلك لا تزيد عن كونها تجسيدا لهذه العلاقة المتعاكسة المعاقة بكل صور الإعاقة ومن ثم فنحن لا نتوقع التواصل في النهاية حيث يفترقان والحال كما هو عليه ،ليس ثمة حدث ينمو أو يتطور فالقصة تبدأ وتنتهي في السطر الأول عندما يقول الشاب (متضايق علشان الدنيا برد) وترد الفتاة ( عادى )

سيبدو أن القصة حسمت على هذا النحو ..الإعاقة الجسدية لا تمنع الفتاة من التواصل والتصالح مع العالم والرضا به على نحو ما هو قائم فهذا البرد الذي تراه (عادى) يصبح عائقا نفسيا في نظر الشاب ،أن لحظة النهاية الدرامية في هذه القصة تكمن في ذلك الحوار المقتضب (متضايق-عادى) أما كيف تحقق هذا جماليا فذلك هو السؤال الأولى بالإجابة والذي يكشف عن إمكانات الكاتب الموهوب وقدرته على الإنصات الدقيق للحالات الإنسانية والأفكار واللحظات التي يكتبها.

صحيح أن القاص جعل كلا من الشاب والفتاة نقضيا شارحا للآخر ولكنه لا ينزلق إلى فخ المفارقة والنمذجة فالشخصيات هنا ليست مصنعة خصيصا لتجسيد الفكرة ،إنها شخصيات مفعمة بالحياة ،بالتفاصيل الصغيرة والممارسات الإنسانية البسيطة فالبنت مثلا تشترى الجرائد اليومية وتتابع أفلام التلفزيون وتتوقف لمصافحة عابرة في الطريق أو تعلق على أحداث العمل وهو في المقابل يرى رجل المرور يتثاءب وأطفال المدارس يتحركون بثبات وكسل يرقد على عيونهم ،سائقو السيارات لا يستخدمون آلات التنبيه والأغاني خافتة وكأن العالم يتحرك من وراء حائط زجاجي نشاهده ولا نشارك فيه ،إن هذا الحائط غير المنظور والمسكوت عنه في النص يجسد الإعاقة تجسيدا كاملا ،ومن خلفه يبدو كل شيء معاقا ،الشاب والفتاة وحتى تلاميذ المدارس يتحركون بثبات كما لو كانوا فوق كراسي متحركة ،إن هذه الحركة هكذا مصنوعة ووهمية فلا شيء يمتلك إرادته ،كل شيء مدفوع بآلية مقننة ليصنع عالما كاملا من المعاقين حتى الفتاة التي حاولت تجاوز واقعها المعاق لتخلف واقعا آخر يوهم بالحركة والتواصل تكتشف فى النهاية أنها مجرد جزء من عالم معاق ، وإنها مدفوعة بآلية نحو الإعاقة قسرا إن بارقة التحرر الوحيدة التي تلوح في النص تأتي عندما تطلب الفتاة من الشاب أن يتركها ،س وسنرى الشاب في نهاية المشهد يقوم بفعل إرادي بسيط وهو يضرب حصى الطريق بقدمه.

إن نصوص (أشرف) قصيرة جدا لكنها محتشدة بالعلامات الفنية التي تجعل منها أفقا فسيحا من الجمال،وهكذا يصعب تماما الوقوف بمثل هذه الدقة عند كل النصوص وسنكتفي بما طرحنا للتأكيد على موهبة (أشرف نصر) في أول أعماله .

* الدراسة بعنوان قراءة في القصص الأولى (سيد الوكيل) –تناولت أعمال ثلاثة من أدباء الفيوم- قدمت ضمن أبحاث المؤتمر العام لأدباء مصر – ونشرت ضمن مطبوعات المؤتمر في كتاب: الإبداع في الفيوم - 2001

http://ashrafnasr.blogspot.com/

No comments: