Nov 19, 2014

العودة والعصفور


العودة والعصفور
حكاية الغربة والسراب!
أشرف نصر
تأليف:محمد جلال عبد القوي
إخراج:هاني لاشين
بطولة:ميرفت أمين– صلاح السعدني
العصفور يخرج صباحا يسعى للرزق فى الفضاء الواسع لكنه لابد له أن يعود لعشه،هكذا جاءت الفكرة فى فيلمنا،رحلة "إيمان" و"منعم" من القاهرة للكويت والعودة،ما بعد الرحلة هو الأهم لأنها لم تكن رحلة عادية،إنها القصة المؤلمة للشعب المصري الذي ارتحل بعد قرون من الالتصاق بضفاف النيل،وذهب منذ السبعينات إلى ربوع الأرض،خاصة إلى الخليج بحثا عما يسمى "الحياة الكريمة"،قدمت العديد من الأعمال عن تلك "الهجرة" –ربما أعذبها،أعمقها،وأكثرها إثارة للألم فيلمي "عرق البلح" و"عودة مواطن"- ولكن الحقيقة ان لفظ "هجرة"الذي استخدم كثيرا منذ العام 1974 ليس دقيقا،فالمصري كائن موسوس ببلده،غالبا لا يهاجر بل يذهب ويعود ولذا لفظ الرحلة– مهما طالت –هو الأدق،لذا نلاحظ أن ما بعد العودة هي هاجس أفلامنا،وفكرة العودة والتحولات التي جرت لتلك الشخصيات هي "مربط الفرس" أكثر من البحث عن تفاصيل الحياة فى الغربة.
الأبرز فى "العودة والعصفور" هو سلاسة البناء وأسلوب الحكي،فالفيلم "يضفر" بين زمني الحاضر والماضي منتقلا بينهما لطرح عالمه الفيلمي،يبدأ المخرج بلقطات تسجيلية "بديعة"ومؤلمة حيث نجد المصريين قد عادوا وكل ما يحملونه أجهزة كاسيت ومراوح و"حبه هلاهيل/ثيابهم"،وهموم"طفحت" على الوجوه لا تظهر الفرحة بالعودة،بل الألم مما جرى.
 بطلي فيلمنا "إيمان ومنعم" وجدوا أنفسهم كغيرهم لم يكسبوا سوى تلك "الهلاهيل" وشقة خاوية فى مدينة تكاد تكون مهجورة – كانت مدينة 6 اكتوبر هكذا فى زمن صناعة الفيلم-ولكن الأهم أنهما خسرا قصة حبهما الرقيقة.
ويكون البناء بين ذهابهما للسويس لإستلام محتويات شقة الغربة وهما لا يحتملان بعضهما البعض وقد انتويا الطلاق،وبين قصة الحب التي جمعتهما فى الماضي،
نرى فى النصف الأول من الفيلم وجهة نظر" إيمان" ثم ينقل فى النصف الثاني وجهة نظر "منعم"،وحين تكتمل الصورة فى النهاية،سنعرف أنه لا ظالم ولا مظلوم فى تلك "المأساة المعاصرة" بل هي ظروف وطن جعل شابة ضحت بتلك التقاليد الزائفة من عفش وشقة وفرح الخ وشاب ضحى حتى بالبيانو/ميراثه الوحيد عن والده من أجل الحب والزواج،
لكن الثمن هو سر المأساة،فزهرة الشباب ضاعت فى الغربة وحتى محتويات الشقة – تلك الأشياء الإستهلاكية التي استعبدتنا جميعا خلال مشوارنا بدلا من أن تمنحنا الراحة – تلك المحتويات ضاعت كالسراب بسبب احتلال العراق للكويت.
وربما –بسبب القيود والظروف السياسية ولأن الفيلم إنتاج التليفزيون- لم تذكر العراق صراحة وإحتلال صدام للكويت-..بل إشارات "لما جري" وجملة مثل:بكره الكويت ترجع لأهلها!
  الخلفية السياسية البعيدة تظلل من بعيد حياة شخصيات الطبقة المتوسطة وتفاصيل الحياة الأسرية والحوار الواقعي والأغاني من الكاسيت أو عزف منعم مع إيمان على البيانو،لطرح موضوع الفيلم وحكايته ببساطة آسرة،
والمخرج يجعل من تفاصيله الصغيرة ثالث "إيمان ومنعم" فنحن نرتبط بالبيانو ودبل الخطوبة /الزواج الموضوعة على "تابلوه" السيارة،وفى واحد من أجمل مشاهد الفيلم:الدبل تهتزعلى التابلوه بعد أن خلعتها إيمان وتبعها منعم نسمع موسيقى" يا دبلة الخطوبة" بتوزيع موسيقي حزين ثم يتضح أنها نقلة صوتية للمشهد التالي ، حيث يتغير فقط التوزيع الموسيقي فنجد فى الماضي حفل الزواج ..ومن إنفجار بسبب دخول قوات صدام لإنفجار عجلة السيارة، ومثلها تدريبات إيمان للبنات على أغنية "وطني الأكبر" أو غناءها مع منعم أغنيتهما الأثيرة "أنا لك على طول" لعبد الحليم ..ومن الدروس الخصوصية لشقيق منعم لمنطق حياة البطلين: هل صفر+صفر تكون النتيجة صفر أم صفرين –كتلاعب لفظي بلاغي حول محصلة حياتهم-.
أما مشهد النهاية فالغريب أنه بدا فقيرا بصريا من المخرج حيث لا نرى سوى سائق العربة بجوار عجلة السيارة النقل،وحواره مع إيمان ومنعم ثم حوارهما بجوار البحر وقد قررا العودة لحبهما بدلا من الجري وراء المادة،فالمخرج ركز على الحوار دون الصورة ولا التفاصيل التي "لعب"عليها طوال الفيلم..أزمة المشهد – في رأيي- جاءت من السيناريو فالمؤلف تخلى فيه عن أبرز ما لديه من أدوات أي مهارته فى تقديم حكايته من خلال الحياة اليومية والحوار الواقعي ذو الدلالات، وعند مشهد النهاية –المفترض أنه الأهم – قدم  حوار مسرحيا خطابيا مباشرا عن العروبة والأحلام..والأغرب أن البدايات المبشرة ثم فجأة التحول للخطب والنطق بلسان المؤلف لا الشخصيات،صار سمة فى أعمال المؤلف فيما بعد فى مسلسلاته التليفزيونية!
ولكن يبقى فى العودة والعصفور بما فعله صناعه قيمته،ببساطته،وتفاصيله وأداء بطليه،خاصة فى حياتهما فى شقتهما بالكويت حيث المحبة والمودة والشهوة – التي قدمت برومانسية تناسب أسلوب الفيلم- وأخيرا ودائما: كل تلك المشاعر تختلط بالتعب "والشقا"!
***
نُشر بمجلة أبيض وأسود
العدد 34 -أكتوبر 2014

Nov 5, 2014

الخوف /مكان للحب





الخوف /مكان للحب
وطن تحت التشطيب وحصار الخوف!
أشرف نصر

حين يفاجئك صديقك بتحفة كفيلم"الخوف" تبتهج وتحزن،البهجة من الفيلم،والحزن من عدم شهرته – كأفلام ترد للخاطر عند ذكر سعيد مروزق مثل زوجتي والكلب أو المذنبون-، ويغضبك ندرة عرضه على الشاشات، يُحرم المشاهد منه ليكابد بالغث المعروض- فهل هو اتفاق غير معلن وتوافق مصالح ضد كل ما هو جاد وصادق رغم مرور 42 سنة على عرضه-!،ثم تنشغل قليلا بحكاية الإسمين:الخوف أو مكان للحب،وربما تميل مثلي لإسم :الخوف لأنه الأقرب لروح الفيلم والأكثر التصاقا بموضوعه، ثم تترك كل هذه الأسئلة لتبدأ المتعة بالفيلم نفسه.
الحدوتة: أحمد"مصور" يعيش في بنسيون،يقابل فتاة ممن تم تهجيرهم من السويس بعد هزيمة 1967،تحدث بينهما علاقة حب، وفى جولتهما بالقاهرة يجدان عمارة "تحت الإنشاء أو التشطيب" فيصعدانها، فيها يتخيلان شقتهما، لكن حارس العمارة يصعد لهما،وتحدث مشاجرة بينه وبين أحمد"
حدوتة تبدو بسيطة،لكن الأهم من الحكاية،هو كيف تحكيها،وهو ما يقدمه سعيد مرزوق لنا بشكل يخلد فى الذاكرة،
الزمن هو العنصر الأول فى بناء الفيلم، ففي زمن الفيلم 1972 كانت هزيمة بشعة حلت بالمجتمع فدُمر نفسيا وعسكريا بعد أن تم احتلال أرضه، الفتاة التي قامت بدورها "سعاد حسني" لا يناديها أحمد "نور الشريف" بإسمها،بل بضمير المخاطب "أنتِ" أو الغائب "هي"،فقد حرص السيناريو ببراعة أن تكون فتاة عادية، تشبه كل فتيات جيلها،أو على الأقل من عانوا تجربتها من موت أسرتها فى العدوان الإسرائيلي على مصر، مهزومة،صوتها خفيض لا يعلو إلا مرة واحدة وهي تصرخ فى وجه أحمد،كي تحثه على مواجهة حارس العمارة وهي تعنفه أنه ليس مثلها فهو لا يحس بمأساة فقدان عائلته دفعة واحدة، بل هو شاب تشغله حاجاته الأساسية فقط، لاحظ ضحكات "نور الشريف" التي تبدو عصبية أكثر مما تبدو سعادة، وحيويته فى الحركة فى مقابل صمت"سعاد حسني" ونظراتها الحزينة وذلك "الانكسار"الذي يحيطها.
المخرج-وهو مؤلف الفيلم أيضا وشاركه مصطفى كامل فى السيناريو- يقوم ب"عجن" الخوف كمفهوم نفسي داخل شخصياته، فنحن نجدهما ضعيفين خاصة"سعاد"،مرتعبين من أن يتم ضبطهما رغم أنهما لم يمارسا الجنس أصلا، ولا فعلا أي خطيئة تستوجب العقاب المجتمعي،لكن الخوف من كلام الناس، ورمزية الحارس التي تشير للعدو المتربص:سياسيا واجتماعيا، جعلهما يحاولان الهرب من المواجهة، ولا تحدث المواجهة إلا بعد أن عرت "سعاد" "أحمد" أمام نفسه.
لغة الصورة عند مروزق تتجسد فى الفيلم كما تجلت قبلها فى "زوجتي والكلب"، فهو يستغني عن الحوار بالنظرات بين الشخصيات ،الإيماءات،التصرفات،الصورة أو الكادر السينمائي بكل مكوناته،فنجد فى "الخوف" حينما يحكي أحمد لحبيبته عن البنسيون الذي يسكنه ويحكي عن زوج صاحبة البنسيون الراحل الذي كان يهوى الصيد والتحنيط،فينقلنا بالصور للحيوانات المحنطة مع أصوات من الغابة، فتخبره الحبيبة أنه مكان يثير الخوف،وحينما تتذكر ماضيها لا تقول الكثير، كل تاريخ الشخصية نراه فى صور،تفجير البيت، الجثث، والنيران،وعندما يرغب أن يخبرها أحمد عن عمله كمصور صحفي، نراه فى في المطبعة مباشرة، فالمخرج يؤمن بأن الصورة بألف كلمة،ويستخدم ذلك بسلاسة طوال الفيلم، فيما عدا أن أصوات الغابة مع جثث الحيوانات المحنطة على جدران البنسيون تكررت وطالت زمنيا على الشاشة،لكن يبدو أنه رغب فى طرح تنويعة من تنويعات الخوف،كي يصل ل"ماستر سين" وهو المواجهة بين أحمد وحارس العمارة،
يمزج سعيد مروزق فى السرد بين الأزمنة الثلاثة:الماضي والحاضر والمستقبل بشكل بارع ولنتوقف مثلا عند موقفين:أول مكالمة بين أحمد والفتاة"سعاد"، يبدأ فى الحاضر،هي فى بيت مغتربات وهو فى البنسيون، تبدأ المكالمة فى الحاضر،يتحدثان، وعند الحكي عن الماضي،نرى بيتها وهو يحترق،وأول دخول له للبنسيون،ويمتزج ذلك بالحاضر أثناء المكالمة،ثم وهما يتفقان على المكالمة القادمة، وأثناء استمرار الحوار بينهما فى الحاضر،نرى "فلاش فورود" لأحمد وهو فى العمل وينتظر المكالمة التالية، ثم هرولته ليصل للبنسيون حيث التليفون،ليواصل المخرج "تشبيك"الزمن فيصبح المستقبل فى المكالمة الأولى هو الحاضر حيث وصل أحمد واستطاع الرد على التليفون.
المثال الأبرز والمُبهر فى عملية تداخل الزمن هذه ومزجها أيضا بتداخل الأمكنة، أحمد وسعاد فى العمارة التي لم يتم "تشطيبها"، يجلسان على الرمل ويتخيلان شقتهما فى المستقبل بعد الزواج، فنجد الانتقال بين بيتها المهدم وبين العمارة وبين الشقة الجميلة التي من المفترض أن تصبح شقة الزوجية، وبين ماضي التدمير والقصف، وحاضر العمارة التي بُنيت ولم تكتمل، وبين مستقبل سعيد وهما يأكلان بسعادة كزوجين ويحاولان تدبير مصروفات البيت.
ويحرص لمنح فيلمه البعد السياسي أو اكمال ما يحدث حول العاشقين من خلفية العالم/المجتمع/الواقع المرير عبر قصاصات الجرائد الملقاة على الأرض التي بها قرارات الأمم المتحدة "التي بلا قيمة"، وأنباء الحرب، حتى يأتي "قتل" اللحظة العاطفية حين تسأل الحبيبة حبيبها عما يحتاجا من مال كل شهر لتدبير مصاريف الحياة، فيقرأ قصاصة بها رقم ميزانية أمريكا المخصص للحروب..وبصريا يختم "الفصل" بكادر بصري رائع يمزج فيه الواقع بالخيال وأحمد يغلق باب الشقة المتخيلة فنجد أنهما عادا للرمل والطوب والجدران العارية.
أخيرا تظل النهاية مثيرة للأسئلة حيث يواجه أحمد الحارس ويهزمه، ثم يحمل حبيبته فى اتجاه الشمس وأنشودة تتردد بنعومة، هل هي نهاية متصالحة،أم منطقية، أرى أنها وجهة نظر علينا احترامها، الأمر -أظنه- بعيدا حتى عن الضغوط المجتمعية أو الرقابية "بشعار" منح الناس الأمل،أن الحياة تحتمل الوجهين،وربما أثبتت حرب 73 صدق التفاؤل أو الأمل،الأهم حتى من الرؤية السياسية،هو حتمية أن نهزم الخوف داخلنا، حتى نحيا!
***
نُشر يمجلة أبيض وأسود
العدد 33- سبتمبر 2014