Nov 27, 2015

Insomina تراجيديا الشعور بالذنب ..ولعنة الارق




Insomnia
تراجيديا الشعور بالذنب ..ولعنة الأرق
أشرف نصر

فيلم: Insomnia
سيناريو: Hillary Seitz 
إخراج: Christopher Nolan
بطولة: آل باتشينو- روبين ويليامز
إنتاج: أمريكي 2002

يقدم المخرج " كريستوفر نولان " فى فيلمه "الأرق" 
حكاية المحقق"ويل دورمر" يؤديه "آل باتشينو"، محقق ماهر جدا فى عمله ، والذي يصل إلى مدينة صغيرة للتحقيق فى جريمة مقتل فتاة أو شابة فى السابعة عشرة ..ويكشف قاتلها الكاتب "برودي" الذي يؤديه روبين ويليامز..كشف الجريمة ليس هدف الفيلم فالبحث عن القاتل بالطريقة التقليدية ليس هو الهدف من الفيلم فلديه العناصر الأهم التي يسعى خلفها وبالفعل يحققها.
المكان هنا أحد أبطال فيلمنا..ليس لأن المدينة شهيرة بكونها عاصمة الصيد ..الأهم أنها – أي المدينة – بها مشكلة أنها لا تظلم فى بعض الشهور فتصيب من يسكنها وخاصة الغرباء بالأرق بسبب النور المنتشر فى كل مكان..الطقس الذي يسوده الضباب عند البحيرة والنور الدائم ليس عنصرا هامشيا، بل سيفجر من خلاله الفيلم أزمة البطل الذي يعيش صراعا نفسيا يظهر تحت ضغط المكان ثم القضية التي يحقق فيها
وإذا كانت الحبكة المبدئية هي الجريمة التي حضر من أجلها "ويل" فنعرف خلال الأحداث أن الطالبة "كاي" التي تبدو كطالبة عادية تعيش مغامرات عمرها وقصة حب عادية مع زميلها، لكنها – أي كاي – تخفي علاقة مع شخص يكبرها ويهديها الهدايا الغالية ونعرف أن مؤلف روايات يعيش بالقرب من المدينة.
وتظهر فى محادثات "برودي " القاتل مع المحقق دوافع القتل وكيف ارتكبت الجريمة ..لكنها حبكة مبدئية أو حبكة ثانية لحبكة أهم ومحركة للدراما فى الفيلم..وهي حبكة أزمة المحقق /الضابط "ويل "فأزمة الأرق التي تحاصره نابعة من داخله..ومن ثقل الاحساس بالذنب ..والجميل والمثير للجدل هو نبل دوافعه ..لأن الضابط فى قضية قديمة سابقة على  الأحداث قام برزع دليل (أو دس/ تلفيق) دليل إدانة لمتهم، يؤمن بأنه مجرم لا يمكن تركه يفلت بجريمته بسبب اجراءات التقاضي..وسبب إثارتها للجدل كتصرف..هو كفة الإلتزام بالقواعد فى مقابل كفة الشعور بفداحة ترك مجرم يهرب من العدالة..تتصاعد الأزمة عند الضابط فى مطاردة الكاتب "برودي" وأثناء المطاردة يطلق النار فيقتل شريكه الضابط"هاب"..ولأن الشريك قبل بالتعاون مع الشئون الداخلية للشرطة والإدلاء بشهادته حول الجريمة القديمة ..يصبح السؤال الذي يعذب "ويل" هل قتل شريكه متعمدا ..أم بالخطأ بسبب الضباب والأرق الذي أنهكه..وبالفعل يصل لحالة من الشك والهذيان أنه ربما بالفعل قتل شريكه متعمدا..
وفى لعبة تبادل أدوار يحاصر المجرم الضابط.. المجرم /الكاتب برودي يقوم باستغلال الأزمة وتعذيب الضابط كفأر فى مصيدة..فهو ككاتب للروايات البوليسية خبير بنفوس البشر ونقاط ضعف الشخصيات..وقريب جدا من علم نفس الجريمة..فيلعب على وتر أنهما شريكان ومتشابهان ..كل منهما قتل بالخطأ ..بل ويبتزه ويزيد -بقسوة –اللعب على وتر أن الضابط قتل شريكه متعمدا وعليه التؤاطو الآن لإبعاد الشك عنه فى مقتل الطالبة..
من جماليات السيناريو هنا أن المحقق "ويل دورمر" ليس رجلا فاسدا دس الأدلة رغبة فى التلفيق لبرئ فى القضية السابقة..وفى القضية الجديدة أي مقتل الطالبة "كاي" يعذبه إفلات القاتل / الكاتب "برودي"..وحتى عندما حرف فى شهادته عما جرى عند مقتل زميله وشريكه يطالب المحققة "إيلي" بالتمهل وإعادة النظر فى تقريرها دون الاعتماد على كلمته..فهو لا يريد للمحققة الشابة "إيلي" (النزيهة / المتحمسة) مصيرا كمصيره بل يريدها أن تؤدي واجبها وأن تلتزم بالقانون..كي لا تعاني ما يعانيه من وخز الضمير..
ويقدم كريستوفر نولان ذلك الصراع الداخلي لدي البطل "ويل" بكل أدواته الممكنة فمعه ممثل من أعظم ممثلي الشاشة "آل باتشينو" ..كما يستغل المكان والطقس والتصوير والإضاءة خاصة فى مشاهد مقتل شريك "ويل" بالخطأ حيث الغابة والبحيرة وأجواء الضباب تسيطر على الصورة ..وفى مشاهد "ويل" فى غرفته حيث الإضاءة والنور وهو يحاول النوم ونكتشف فى أحد المشاهد أنه هو من يتصور ذلك فقد أظلم الجو بالخارج فى هذه الساعة ، وهو ما توضحه صاحبة الفندق الذي يقيم فيه حينما تنير لمبة الغرفة المظلمة فى حقيقة الأمر،،
والأجمل أنه يلعب بالجرائم كومضات بصرية تلمع أمام عيني المحقق " ويل" فنحن لا نرى مشاهد كاملة للجرائم.. بل فلاشات كومضات الذاكرة سواء أثناء تذكر "ويل" لمقتل شريكه ..وفى بحث جديد سوف يرى وجه شريكه المقتول فى وجوه من يبحثون ..أو أثناء حكي الكاتب "برودي" لقتله للطالبة "كاي"
فهو لا ينشغل بالجريمة ومشاهد القتل والجثث بقدر ما ينشغل بنفسية القاتل..وبقدر ما يناقش قضيته الأكبر حول الصواب والخطأ وأخلاقية سلوك المحقق ومعاناته الداخلية التي تدفعه لسلسلة الأخطاء..
يمكننا فى الأخير اعتبار "ويل دورمر" بطل تراجيدي أرسطي لكن بشكل معاصر حيث ارتكب فى بداية حياته خطأ يبدو نبيلا دفعه له الكبر أو تحدي (الآلهة قديما..أو عدالة ناجزة فى فيلمنا) يجعله يدفع الثمن عبر مأساة أكبر وجريمة أخطر ..
حتى حالة التطهير الدرامي نجدها هنا بموت القاتلان (المجرم "برودي ، والمحقق "ويل" ) فكلاهما لقى جزاءه المستحق "دراميا" وأخيرا سيتمكن "ويل" من النوم.. ويالها من راحة !
***
نُشر بمجلة أبيض وأسود
العدد 46 أكتوبر 2015