Jul 20, 2010

حرية دوت كوم..حرية بلا قلب


-->
حرية دوت كوم..حرية بلا قلب *
دراسة د.وائل غالى
الأسهل علي أن أبدأ بإشارة شخصية .ولد أشرف نصر فى الفيوم عام 1976 ،ثم درس السيناريو بالمعهد العالي للسينما بالقاهرة حيث التقينا ،أنا أستاذا للمواد النظرية بالمعهد ،وهو متلقيا للدرس بعد فراغه من دراسة الحقوق بالجامعات المصرية ،أصدر أشرف مجموعة قصصية بعنوان"صوت الكمان" (2000) ورواية "من حكايات سنورس"
عن بلدته الصغيرة بالفيوم (الهيئة العامة لقصور الثقافة ،2003) و"رباعيات على عتبة بيتنا وقعت منى حدوتة" (موقع كتب عربية،2006) ثم فاز بجائزة القصة فى مسابقة "ادب الحرب" ،مجلة "النصر"،1998، وبجائزة القصة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة ،عام 2002 ثم نشرت رواية "حرية دوت كوم".
اعتبر أشرف نصر واحدا من الكتاب الشباب المتميزين الذين يرون أن هوس الكتابة الأدبية الأهم هو الجنس، وان كتابة الرواية هى نفسها سرد للهستيريا الإلكترونية .إنه يثير اهتمام الناقد ،فيما يرفع الحواجز بين النص والنقد .انطلاقا من مثال متميز هو "الجنس" ،روى المؤلف قصة القمع الجنسي الذي يفعل فعله فى اللغة نفسها،وهو شيء لم يتمكن منه إلا بخروجه من إجراءات البوح التي تمارس فى الأماكن الدينية والمدرسة والمستشفى والتي تبحث مع ذلك وفى آن واحد فى واقع الجنس .فالحياة الجنسية، او ما بقى منها ،تجاوزت حدود المنزل ،حتى عادت لا تنحصر فى غرفة الأبوين .مع ذلك ،فرضت قاعدة الصمت .وسادت الرقابة .وما بقى من الجنس صار مجردا من الفرح.
يحكى الراوي قصة شريف/البطل مع"حرية دوت كوم" ،أي مع ذلك"المنتدى" الذي يفتح للجميع"آفاق الحرية الحقيقية" ،أي الحرية الجنسية ،وهى فى الواقع حرية افتراضية – انحيازا إلى الحلم ورفضا للواقع وهو ينمو ويتطور ويزيد تعقيده وتخلفه كل يوم. وهو انحياز وارد على كل شيء حتى ملامح الوجوه وأنماط السلوك وجرس الكلمات وتراكيب العبارات وتطور الحدث وكصائر وأقدار الشخصيات فى الرواية والجو العام الذي يحيط بهم ،فضلا عن الإيقاع الفائق السرعة لحركة السرد.
وأقول عن هذا الانحياز إنه يوجهه إلى منابع محددة للتجريب وإلى طريقة محددة لتلقى التجربة وإلى منهج خاص فى صياغة ما تلقاه من تجارب وأنه شكل مزاجي الخاص فى الانفعال بتجاربه وأنه أمده بالأدوات والخطة لكى يحول انفعاله إلى الاحتجاج.
وقد يبدو عنوان"حرية دوت كوم" اقتباسا لعنوان فيلم "ثورة الماكينات"لمدكور ثابت الأستاذ الآخر الذي درس أيضا للمؤلف مادة الإخراج حينما كان بالمعهد .وهو فيلم رائد سابق على ميلاد المؤلف نفسه.فعندما نوسع مجال مناهج الأدب خارج إطار العناصر الداخلية للعمل الأدبي فإن أول شيء يشمله التوسيع هو الفنون الأخرى ،ذلك أن الإحاطة العامة بالفنون كلها تجرى أساسا على المستوى الجمالي إذا اخترقنا نطاق الناحية الأدبية الخالصة فى العمل الأدبي .والعلاقة الوثيقة بين فن السرد الروائي وفن كتابة السيناريو السينمائي المجاور ،تمثل حقيقة مضيئة تظهر منذ الوهلة الأولى.
ولقد اختلفت نظرة العصور المتباينة إلى الفعالية المباشرة والمدى والأهمية التي تنسب إلى ما يكون بين الفنون المختلفة من تأثير وتداخل وتغلغل متبادل.فقد أكد لسينج استقلال كل من الأدب وفن التصوير واختلافهما أحدهما عن الآخر اختلافا نوعيا.أما الرومانسية فقد انطلقت من مفهوم وحدة الفنون جميعا وإن كان للفنون استقلالها الذاتي من الناحية النظرية، فذلك لا يمنع التأثير المتبادل بينها، تختلف درجته من حالة لأخرى ومن كاتب لآخر.
وعندما نوسع مجال مناهج الأدب خارج إطار العناصر الداخلية للعمل الأدبي فإن ثاني شيء يشمله التوسيع هو العلوم . وكان تحديد حدة التعارض التقليدي بين العلم والفن من صنع جملة التيارات الفكرية التي شهدتها الحقبة العربية الكلاسيكية.وثمة حدث مهم وهو ان الفقهاء المسلمين والمتكلمين والعلماء على اختلاف تياراتهم وميولهم بل والفلاسفة المتأثرين بالتراث اليوناني، مثل الكندى أو الفارابى ،قد أسهموا جميعا بنحو أو آخر فى تضييق الشقة التقليدية التي كانت تفصل بين العلم والفن .فإن هذه العلاقة الجديدة بين العلم والفن أزالت العقبات التي كانت تقف حائلا دون صياغة قواعد الفن وأدواته فى موضوعات العلم ،بل كان إيذانا للمعارف بأن تعتبر معارف علمية من دون أن تطابق النموذج الأرسطى القديم أو النموذج الإقليدي الهندسى المعروف.
ظلت المسألة ما بين السينما والأدب ،كما هى،مسألة موقف الأدب والفن من هجمة العلم وتغلغله فى الحضارة الحديثة ،أما التكنولوجيا فهي مثلها مثل الهندسة،مبنية على العلم واكتشافاته ،بل يمكن تعريف التكنولوجيا ببساطة على أنها التطبيق العملى للعلوم المختلفة ،فهى الوسيلة العملية التى تحول الاكتشافات العلمية النظرية إلى مخترعات شتى نستفيد منها فى جميع جهات حياتنا.وتبحث التكنولوجيا عادة فى كيفية تنفيذ إنتاج سلعة أو أدوات أو معدات جديدة أو تشييد مبنى أو منشأة يحتاج إليها المجتمع ،وكذلك استحداث أشكال جديدة متطورة من الطاقة.
استعمل الإغريق القدماء كلمة "تقنى" للدلالة على الصناعة وعلى الفن معا.وأطلقوا على الصانع والفنان اسم "الفنيين".بل لا تعنى كلمة التقنية اليونانية معنى الصناعة ،ولا تعنى الفن ،كما لا يعنى الفن كله بمعناه اليوم ،ولا تعنى أبدا نوعا من الإنجاز العملى إنما هى تسمية طريقة العلم فى البحث.
وما حدث هو أن جيمس جويس وت.إس.إليوت وأمثالهما من الكتاب الغربيين المحدثين قد انتقدوا العلم واستوعبوه واستعملوه وأثروا فيه.
يمثل شعر ت.إس.إليوت فراغ الحضارة الحديثة ،أي فراغ حضارة العلم والصناعة التي بلغت بالإنسان درجة كبيرة من السيطرة على قوى الكون المادية .وعلى المستوى التعبيرى ترك فن السينما فى الشعر الإنجليزي المعاصر بعد الأثر .فالطريقة المرعية فى الإخراج السينمائي هى الانتقال المفاجئ السريع من منظر إلى آخر من دون اعتبار لصلات الزمان أو المكان أو التسلسل المنطقي فى عملية الانتقال هذه ، والاعتماد التام على وحدة الفيلم فى مجموعه وعلى التتابع العاطفى وحده فى أجزاء الفيلم المختلفة .
يقدم كاتب"حرية دوت كوم" رواية واضحة – وهذه ميزة من ميزات النص وليس عيبا- تستحث الهمم على الفعل شعارها :"أكتب ما تشاء وشارك فى أقسامنا الرئيسية وابتكر أقساما فرعية فى أى موضوع يشغلك :مبدؤنا حطم قيودك وامتلك حريتك ." ولغة المؤلف فى رواية "حرية دوت كوم" الأخيرة تكاد تكون عن قصد محكية اللهجة و"غير شعرية" .كأنه أراد لروايته أن تكون أيضا صرخة احتجاج.
واقتراب الكاتب من موضوع الجنس هو اقتراب من أحد أهم موضوعات الكتابة المهمة جنبا إلى جنب مع موضوع الغيبية ،والبقاء وهى استعادة شبه لاواعية وعفوية للتصورات المعروفة عن دوافع الإنسان الجنسى. ولم يفت الكاتب أن يربط مشكلات الغريزة الجنسية بمشكلات الغريزة الدينى بشكل عام .بل تكاد الغريزتان أن تكونا وجهين لعملة واحدة.أن رواية"حرية دوت كوم" القصيرة تزخر بأمثلة هى فى الواقع مقاطع سردية درامية لغزو العالم للرؤية، والنشوة الافتراضية والسيكولوجية العامة ، ونكران تقنيات السرد الخطى المعروف .وهو ككتابة صنع الله إبراهيم فى فترة "تلك الرائحة" بالذات ،يدمج التسجيل الإلكتروني من جهة ،والمشهد الروائي المجسد،من جهة أخرى .وكان صنع الله إبراهيم فى تلك الفترة من أدباء الموجة الجديدة فى مصر، ونشر هذه القصة للمرة الأولى فى كتاب صدر فى القاهرة عام 1966 بمقدمة ليوسف إدريس ، مع أن يوسف إدريس هو الذى قال :إن جيمس جويس وإليوت وأمثالهما ، قد انهزموا أمام العلم –فى رأى – فأرادوا ان يتزيوا بزى العلماء ، وما كان ينبغي لهم ذلك ." ولم يتح لكتاب"تلك الرائحة" أنيصل إلى القراء ،فقد اعترضت عليه الرقابة المصرية واستصدرت قرارا من السلطات الإدراية بمصادرته .فكان ذلك أول عمل أدبي يصادر منذ "المعذبون فى الأرض" لطه حسين فى عام 1950 .وصدرت القصة فى طبعة كاملة عن دار شهدى بالخرطوم عام 1986 .
إن رواية"حرية دوت كوم" القصيرة عن الفن من التطرف الإلكتروني ما يبين أنه يطالبنا بضرب معين من التكييف الذهني لاستيعابها .فأحد تعليقات "شريف" على أم المعارك الحقيقية –روز،تقول:"كان التقزز يسيطر علي ..روز وأسرتها والهولنديون ومضايقاتهم وبغداد وأهلها وما يفعلونه من جنون." إذا استجبنا لهذا القول معتمدين على المعاني التى نقرنها عادة بالكلمات الواردة فيه، فإنه سيبدو ، كما أراد له الكاتب أن يبدو أشبه بكلام صادر عن رجل فى مقابل آخر مرحل جنون صدام الحضارات .وهى استعادة من هذه الجهة لرواية"موسم الهجرة إلى الشمال" 1967 وترجمت إلى اللغة الإنجليزية فى العام 1969 ،للطيب صالح ،وسرده لصدام الحضارات من خلال تصوير العلاقة بين مصطفى سعيد وهو طالب سودانى شاب أظهر نبوغا واضحا فى دراسته فى السودان ومصر ،وعدد من النساء الإنجليزيات .
وهنا صارت العلاقة بين شريف وروز الهولندية.لكن روز الهولندية فى رواية "حرية دوت كوم" هى أقرب إلى مارى فى "قنديل أم هاشم" ليحيى حقى منها إلى الإنجليزية فى "موسم الهجرة إلى الشمال" .
فروز كمارى فى قنديل أم هاشم ليحيى حقى تنجح فى تدمير القيم التقليدية لبطل الرواية المصرى شريف .روز هى كمصطفى فى "موسم الهجرة" تبدو غازية. وشريف كإسماعيل فى قنديل أم هاشم كاد يفقد عقله وشرد،بعيدا من أسرته وجعله يكفر بالوطن والدين والأهل والقوم.
فشريف فتى قروى وإن عاش فى المدينة .نشأ فى صراخ الأب المنتشر فى سماء البيت والمخترق أذان شريف الراقد على سريره والمختبئ تحت البطانية من صوت أبيه وبكاء أمه وصخب أخوته .لم يكن يعرف سبب المشاجرة الجديدة لكنه توقع أن تكون بسبب المال .
الانفصال والتمزق من اللحظة الأولى فى الرواية من دون انتظار .مع اندفاع الأب للغرفة اخترقها الضوء وتجلت له رائحة الدخان المكتوم فى الغرفة المغلقة،أغمض شريف عينيه محاولا بتلك الإغماضة أن يمنع أو يؤجل مواجهة مل من تكرارها ،لكن الأم شدت الأب للخارج وهى تمنعه من إكمال سبابه عبر كلمات اختلطت بالدموع .تأكد شريف من خروج الجميع فرفع الغطاء وجلس ينفخ بملل، وبينما يمد يده لعلبة السجائر الموجودة تحت الوسادة ميز كلمة واحدة من بين صرخات أبيه
الفاتورة
وينتقل شريف مباشرة إلى لب الموضوع : فهم شريف سبب غضب أبيه ولأول مرة منذ فترة طويلة يلتمس له العذر. أشعل سيجارته ثم فرك عينيه وهو يحاول تذكر كيف بدأ كل شيء .لم يستطع التأكد هل كانت البداية منذ الشهور الثلاثة الأولى الأخيرة والتي لازم فيها جهاز الكومبيوتر .
وينتزع الفتى القروى من أرضه وناسه ، يدفعه طموحه وتطلعه هو إلى مستقبل أرحب وأرغد، إلى الملاحة الإلكترونية فتحدث أحداث فى منزله الذى لا تنقطع فيه المشاجرات .فكالعادة يختبئ أخوته الأطفال خوفا من بطش الأب ولابد أن أمه الآن تبكى فى مكان ما،والأب الثائر لا يفعل شيئا إلا عند أول وجبة تجمعه مع شريف أول مداعبة أو شبح ابتسامة تظهر على شفتيه .
تصطرع الأفكار والأحاسيس فى روح أبيه حتى تختزن الثورة فى الصدور لتشحن حقدا جديدا بينهما.فى المطبخ تنظر له الأم ثم غضت بصرها عنه.لم يحدثها ،فشريف لم يكن مستعدا لأي شيء.
والجنس هنا هو نفسه وهو فى الوقت نفسه "اليجوريا" ،أي أن قصة الجنس الرمزية هى إشارة إلى شيء آخر هو صدام الحضارات المتكرر فى العصر الحديث،بين الحضارة القديمة المتوارثة والحضارة الفاوستية الجديدة.وهو الصدام الذى يتكرر منذ فترة الحملة الفرنسية على مصر والتى رواها الجبرتى فى "عجائب الآثار فى التراجم والأخبار" ،ورواها صنع الله إبراهيم من جديد ،فى رواية "العمامة والقبعة" 2008.
فتحت مصر ابوابها للحضارة الغربية، كما هو معروف ،من بعد غزو الفرنسيين لها فى أواخر القرن الثامن عشر الميلادى ، ومن بعد تقلد محمد على باشويتها فى أوائل القرن التاسع عشر الميلادى،فتنبه المصريون إلى أشكال حضارة غريبة عنهم،رأوها أثناء إقامة رجال الحملة الفرنسية بالقاهرة.
وتبدو لى رواية " العمامة والقبعة" الأخيرة من روايات صنع الله إبراهيم وكأنها الوجه الآخر لرواية أمين معلوف على " الحروب الصليبية كما رآها العرب" 1989 ،التى سبقت صدور رواية صنع الله إبراهيم بعشرين سنة تقريبا. وقد انطلقت رواية "الحروب الصليبية كما رآها العرب" من فكرة بسيطة هى سرد قصة الحروب الصليبية كما نظر إليها وعاشها وروى تفاصيلها فى الجانب العربى .واعتمد محتواه بشكل حصرى تقريبا على شهادات المؤرخين والإخباريين العرب فى تلك الحقبة الدقيقة من تاريخ الصراع العربي-الغربي.
وأتصور أن ذلك الجدل المحتدم بين الحضارات هو الوجه الآخر للجدل الفنى بين الواقع والحلم وهو اللحظة الأولى التى تتولد منها شرارة الكتابة ،وأتصور ان ذلك الجدل المولد لشرارة الكتابة لابد كائن خلف كل مقدرة إبداعية فى أي لون من ألوان الإبداع الفنى .
هذا الجدل بين عالمين :الأول قاهر لكنه واقع، فهو ضرورة ،والثاني ملاذ ، لكنه مهرب ،فهو حلم إلكتروني ، ولقد كان التعرف الأول إلى الحياة صارما ، وإذا ما تحقق الكاتب من قبح وتعقيد ومحدودية الملاذ الإلكتروني ،فهو معطى له سمات كونية.ثم بدأ يتعامل مع حتمية الثعلب بين العالمين ، بين قريته حيث ولد ونشأ وبين المدينة حيث تعلم ثم عمل ثم تجربة "المدينة-العالم".
وللكاتب مقدرة على وضع تصوراته الأساسية فى هذا الشكل الإلكتروني الجنونى المموه ،وكانت النتيجة أنه تعمد تضليل جميع القراء الذين يؤثرون الاعتقاد بأنه مجنون على الظن بان استعمالهم للغة غير واف.
ومثل ذلك ،فإن ربط الكاتب الحرية بالفنون الإلكترونية تعنى ،أولا ،أن فكرته عن العولمة تتضمن أكثر مما نقرن نحن بها ، وتعنى ،ثانيا، أنها تستثني معظم ما نقرنه نحن بها .
إن الكاتب يسمى العمل الفنى ما قد تسميه لغة تقليدية أبسط عمل إحسان ومحبة.
وسواء اتفقنا، أو تعاطفنا، مع موقف المؤلف أم لا،فإن ما يقوله يشتمل على وجهة نظر ،ووجهة النظر هذه لابد لنا من تمحيصها.
إحدى خصائص كتابة أشرف نصر التى تلفت نظر كل قارئ هى قطعه السينمائي والإلكتروني للحركة المتصلة للسرد الروائي القصير .
مع ذلك ،فإن شيئا ما يتحرك –هى حركة الجسد ،ولكنها تعبير عن احتجاج أكثر منه موقفا ثوريا واعيا .فى لحظات الثورة فى تاريخنا نجحت الجماهير فى أن تعلى ذواتها عن هذه السلبية والانحطاط ،وتتألق فى التصدى للواقع .وفى عصور النكسة والانحطاط ، تتـألق فى التصدي للواقع بجدية غير مخدرة ، وتضع الحلم فى موضعه الحقيقي ،لا كمهرب وملاذ ،بل كقدرة تضاف لمضاعفة الإيجابية فى التصدى للواقع .وفى عصور النكسة والانحطاط يسيطر مرة أخرى هذا التمزق لكن من دون أن تعود الجماهير إلى ذات النقطة التى بدأت منها.
إذا قرأن رواية "حرية دوت كوم" كما أراد الكاتب لنا أن نقرأها ،فإننا لا نقرأها بالمعنى المعروف أبدا : إننا نحدق فى متوالية سردية.
النصوص التى أوردها الكاتب لكتاب آخرين ،كرواية"وليمة لأعشاب البحر/نشيد الموت(ط7سورية،دمشق،دار ورد200) لحيدر حيدر ،وقصيدة نزار قبانى "أنا رجل واحد ..وأنت قبيلة من النساء" و"تلك الرائحة" لصنع الله إبراهيم،هى نصوص –رغم ما بينها جميعا من اختلاف فى الأسلوب وبنية التعبير عامة- أثرت فى رواية "حرية دوت كوم" وإن كانت "تلك الرائحة" هى الأقرب "لحرية دوت كوم".
صدرت "حرية دوت كوم" كما ولدت "تلك الرائحة" عن لحظة يأس معينة.فالواقع والحلم نقيضان فى مركب سمته الأساسية العجز والقصور. من حيث إن الحلم هو تشبث بالمستحيل ناشئ عن اليأس من الواقع، وممارسة الواقع يشلها التحذر الناشئ عن التشبث بحلم مستحيل.ووجود النقيضين بهذا الوصف معا لا يخلق إلا مركبة سمتها الأساسية العجز.
من هنا تكتفى الرواية بأن ترصد الواقع كما هو من دون محاولة للتأويل أو تفسير الكابوس الإلكتروني ،بل الهم الأساسي هو الإلمام بالواقع ،ومحاولة فهمه لا مجرد رصده .فالثورة الإلكترونية لم تمنح أي حرية على وجه الإطلاق إنما منحت قالبا جديدا لمحتوى السيطرة .وهو محتوى لا يراه الإنسان –فى تصورى- إلا ببصيرة سياسية ،واسمحوا لى ان أن أطور الكلام وأقول أنه لا يوجد فن من دون وجهة نظر سياسية هذا إذا ما رأينا فى السياسة شيئا أشمل من حمل بطاقة حزب، القبول والانضواء ،الرفض والتظاهر،أو أي لون آخر من ألوان الممارسات السياسية المعتادة واللازمة ،والتى قد يمارسها الإنسان كمسئول عن إنسانيته وعن انتمائه لوطنه .بعبارة أخرى ،فإن نزار قبانى الذى يستلمه الكاتب والذى كان استلهم عمر ابن أبى ربيعة فى تصوير أحاسيسه نحو المرأة اتخذ المرأة وسيلة للتعبير والمعرفة وتحدث عن الجنس بطهارة،اعتمد فى شعره على المرأة والجنس والحب واتخذها وسيلة لبث أفكاره الأخلاقية،على أنه لم يقف فى شعره عند هذه الآفاق الحسية وحسب بل خطا خطوات فى التعبير عن مجتمعه وقوميته عن وطنه العربى وعن نزعته الإنسانية وخاصة الفترة الأخيرة ،فقد تجاوز الذاتية إلى الموضوعية ،فكتب قصائد عن"المجتمع" المكبل بالتقاليد وعن القومية العربية الثائرة المتفتحة وعن الوطن المتوثب ،ففى قصيدته "قصة راشيل" يصف الفتاة اليهودية المجندة التى لاقت صنوف العذاب فى سبيل أن تصل إلى فلسطين:
"أكتب للصغار
للعرب الصغار حيث يوجدون
قصة إرهابية مجندة
يدعونها راشيل
قضت سنين الحرب فى زنزانة منفردة
وأبحرت من شرق أوربا مع الصباح
من النمسا من استامبول من براغ
من آخر الأرض من السعير
جاءوا إلى موطننا الصغير ."
كذلك فإن رواية "وليمة لأعشاب البحر" لحيدر حيدر ليست رواية حسية وحسب إنما تعبر عن المدينة العربية الموحشة ، المحكومة بالإرهاب والجوع والسمسرة والدين والحقد والجهل والقسوة والقتل –مدينة تكره الغرباء ، ورغم جوارها للبحر والغابات فهى تبدو حزينة .أن الحب ينمو داخلها نمو النباتات بين شقوق الصخر، مهددا بالموت متى حاول الوقوف تحت الشمس.
كذلك فإن رواية "الخبز الحافى"لمحمد شكرى ليست رواية حسية وحسب ،غنما تعبر عن محاولة تسجيل مرحلة زمنية عن جيل الصعاليك فى عهد الاحتلالين الإسبانى والفرنسى والدول التى كانت لها هيمنة لا تقل عن الاحتلالين المباشرين،خاصة فى مدينة طنجة الدولية.
لقد حاكم كاتب "الخبز الحافى" نفسه وأسرته والمجتمع بقانون الشيطان الذى أوعاه باكرا معنى الإستغلال والقمع اللذين أيقظا فيه التمرد والحرية.لقد قال ألبير كامو :"لم أتعلم الحرية من كارل ماركس ،ولكنني تعلمتها من البؤس".
إن ما كتبه محمد شكرى فى هذه السيرة هو وثيقة اجتماعية ،وليس أدبا بالمعنى المحدود للكلمة ،عن مرحلة معينة آثارها السيئة مازالت تنخر مجتمعنا العربى إلى الآن.
مع ذلك، ربما اقتصر كاتب "حرية دوت كوم" على الرصد لشعوره بضرورة تواضع دوره .فأن تكتب من أجل الشعب..يعنى ذلك أن تغتر وأن تنخدع .يعنى ذلك أيضا أن تتكلم نيابة عنه،ان تمنعه من حقه فى الكلام .هذه حقيقة خطيرة خاصة أن الكتابة تنطلق عادة من شعور صادق ونية حسنة .والحال ان هذه الحقيقة تكشف عن تحول سحر الديماجوجية البارع إلى اغتصاب وتشويه واحتقار. إن الشعب ،نظرا لهويته المعقدة وغير المتجانسة ،ولتركيبه غير المحدد والمتناقض ،ولبنيته المجردة الدقيقة ،لا يمكنه نطقيا أن يندب شخصا ليتكلم نيابة عنه ،تجاوزا ،يمكن لجماعة معينة أن تفوض لشخص نقل كلام بصيغة الجمع أو معبرا عنه بغموض .لكن يستحيل على شعب بكامله أن يتعرف إلى ذاته فى شخص واحد ويتوحد معه .غن العكس هو ما يحدث عادة .فقد يوحى رجل واحد بأن وراءه شعبا بأكلمه ،ويبعث على التوهم بأنه "تعبير أصيل" ،وخلاصة رائعة لملايين الذوات المفردة،ومن ثم لعدد لا نهائي من المتغايرات والمتناقضات .هذه الظاهرة تسمى باسم "الدكتاتورية"
ثمة إيحاء ما من خلال عملية الانتقاء للظواهر المرصودة وينعكس ذلك الاختيار على اللغة ،فالجملة فعلية ،قصيرة،تخلو من التشبيهات وألوان البلاغة التقليدية ،من الترهل والاسترسال المعتادين فى السرد الكلاسيكي الحديث والقديم،عبارة محايدة تقريرية ،لا تحيل على شيء ،منظومة من تتابع لاهث ،لا يتوقف للتحليل والتمحيص والتعقيب،ترصد كل شيء ، فظواهر الواقع كلها تتساوى فى القيمة ،ترصد وحسب،من دون أن تحفل بالتقاليد الاجتماعية (فتتحدث ببساطة شديدة عن اللواط والاستنماء وزنا المحارم )،ولا بالأنواع الأدبية المستقرة.
ولم تكن مصادفة أن صدر صنع الله إبراهيم "تلك الرائحة" عند نشرها بكلمة لجيمس جويس على لسان بطل "صورة الفنان فى شبابه" ،يقول فيها:" أنا نتاج هذا الجنس وهذه البلاد وهذه الحياة ..ولسوف أعبر عن نفسي كما أنا". و"صورة الفنان فى شبابه" سجل لجميع الأطوار الأولى فى نموه النفسي والعقلي ،وهى وصف للصراع الذي نشب فى كينونته بين الشخصية الفنية والشخصية الدينية.
لا شك أن تطور أسلوب الكاتب فى التصوير السينمائي –الإلكتروني كان له أثر كبير فى تقطيع الخطة فى بنية الرواية.ونلاحظ أن نماذج الكاتب الثلاثة التى تمتاز باستثناء قصيدة نزار قبانى "أنا رجل واحد..وأنت قبيلة من النساء"،بالحركة السردية ،وهى رواية "وليمة لأعشاب البحر"لحيدر حيدر ،ورواية "الخبز الحافى/سيرة ذاتيةروائية"1935-1956،رؤية ،2008 لمحمد شكرى 1935-2003،التى ترجمت إلى 39 لغة ،و"تلك الرائحة" لصنع الله إبراهيم ،لم يصورها قط وإنما أورد العناوين ضمن جداول وكأن إشارات إلى طريق مسبوق .
ونلاحظ أيضا أن الصور والكلمات فى الجدول الواحد من جداول "حرية دوت كوم" لا تصور النص ،وأن ترتيب الجداول فى الأجزاء المختلفة من الرواية يختلف قليلا عما هو فى الأجزاء الأخرى.
من الواضح إذن أن حذف الحركة المؤقت أمر أساسي بالنسبة لتركيب هذه الرواية ، وأن وضع متوالية للجداول أمر ينسجم مع النظام الكلى ،وليس مجرد مصادفة .
موضوع رواية "حرية دوت كوم" هو لحظة إشراق فى ذهن الكاتب ،وهى لحظة ،كلحظات التبين، تصل بينه وبين سلسلة من اللحظات السابقة تمتد عودة إلى خلق العالم- إلى الإلكترون.
فى "حرية دوت كوم" عملاق واحد ،حلمه هو الآلة .إن التاريخ فى "حرية دوت كوم" هو نسق من لحظات يحدها المكان .
أى أن ما يقال يراد به أن يقدم سياق لحظة الإشراق كنسق آني واحد من الإدراك.
مع ذلك فإنه يشكل سردا قصصيا ،بل يتقدم ،أشبه بالتقدم المكاني ،من تلك اللحظة ،فالكاتب يتصور "المدينة العالمية" كصورة تمتد عكسيا من الجحيم إلى السماء وتكتظ بالأشخاص والإشارات. ثم إن كل ما يقال فى النص يراد له أن يجد موضعه فى هذا النسق التصويري الآني ، وأن يشكل فى الوقت نفسه سردا يمتد خطيا .
يرى الكاتب الماضي ،والحاضر ،والمستقبل، وكلها موجودة معا أمامه، وهي فى الوقت نفسه منفصلة.
* دراسة منشورة بمجلة الثقافة الجديدة العدد 238- يوليو 2010
http://ashrafnasr.blogspot.com/

No comments: