"على من نطلق
الرصاص"
السياسي والعاطفي والاجتماعي
كلها دروب لطريق واحد
أشرف نصر
تأليف:رأفت الميهي
إخراج:كمال الشيخ
بطولة:سعاد حسني-محمود ياسين-مجدي وهبة
فى واحدة من أبرع بدايات الأفلام أو"نقطة
الهجوم" الدرامية،شاب يدخل لمقر شركة ويطلب مقابلة رئيس مجلس ادارتها،الشاب
ينتظر قليلا،ثم يدخل دون إذن لمكتب الرجل المهم، لحظات والكاميرا فى مكتب
السكرتيرة نسمع بداخل مكتب رئيس مجلس الإدارة صوت رصاص،وفى المكتب الشاب يطلق
النار على رئيس مجلس الإدارة،تسود الفوضى فى الشركة،الشاب يهرب وأثناء هرولته بالخارج
تصدمه سيارة،،نعرف معلومة صغيرة من السكرتيرة للمحقق أن المجنى عليه لا يعرف
الجاني،لنعود أمام الشركة فنجد الجاني والمجني عليه ينقلان معا فى سيارة إسعاف
واحدة!
تقديم ذلك فى لقطات ومشاهد مكثفة،وتركيز من
المخرج على وجوه الجميع لنقل المشاعر المتضاربة وسارينة سيارة الإسعاف –وزمنيا فى
وضح النهار- وبإيقاع سريع لاهث لتأتي بعدها تترات الفيلم،، فندرك أن كاتبا كرأفت
الميهي ومع مخرج بحجم كمال الشيخ قد نجحا فى وضع الطعم لنا،سوف نلتصق بالمقاعد ولن
نغفل أو نحس بلحظة ملل،بل أسئلة لا أول لها ولا آخر،ما الحكاية؟من هؤلاء؟لماذا؟الخ
نحن إذن أمام فيلم بوليسي يعتمد على تكنيك
التحقيق لتكشف الحقائق،لذا كل تفصيلة صغيرة ستدلنا على الحقيقة،ومن خبرات المشاهدة
ندرك أن كل المعلومات التي تظهر أولا سيتم التشكيك بها لاحقا لصالح الحقائق فيما
بعد،وعلينا الانتظار والانتباه بدقة لنصل للنهاية التي ستحل اللغز،الفيلم البوليسي
وتكنيك التحقيق هو نوع فيلمي جاذب جماهيريا دائما.لكن الأهم هو تحميل ذلك الشكل
التجاري لمضمون فني وسياسي وانساني ومن قبل ومن بعد مضمون سينمائي يليق بصناعه –الميهي
والشيخ ونجوم الفيلم فى مرحلة نضجهم-فالفيلم إنتاج منتصف السبعينات.
البناء السردي يقوم هنا كتابة واخراجا على
فكرة أبعاد الصورة المتعددة،كل مشهد محتشد بالتفاصيل المكملة للصورة الأشمل والتي
لا يعرفها سوى المشاهد –الذي يصبح بمثابة القاضي العادل للحكم على هذه القضية-،يبدأ
المشهد من نقطة ويعرض فى منتصفه معلومة ويصل لخاتمة،ويتحرك المخرج بالكاميرا على
وجوه شخوصه فنكتشف أن لكل منهم موقفه المختلف أو زاويته لمحتوى المشهد.فمثلا أول
مشهد لظهور تهاني زوجة المجني عليه رشدي سوف تقابل زوجة الجاني وبينهما يقف الضابط،زوجتان
لكل منهما زوج فى غرفة مختلفة ولكل منهما زاويتها فى رؤية ما جرى فى الحادث ويقف
الضابط يراقب الجميع ليكون عيننا التي نكتشف بها الحقائق،
من خلال الضابط نشاهد مصطفى "الجاني-
كوصف قانوني وليس انسانيا كما ندرك بعدها"من قيادات الحركة الطلابية فى السبعينات
"ذلك الجيل النبيل الممزق" الذي تظاهر مطالبا بمعرفة المتسبب الحقيقي فى
هزيمة 67 ولم يلق إلا التعذيب والتشريد والخراب النفسي جراء حب وطنه!وبهذه اللقطات
القصيرة زمنيا،انتقلت القصة بنا لأبعاد سياسية ويقدمها المخرج بذكاء فى لقطات أبيض
وأسود لبطله مصطفى وهو يتظاهر والشرطة تضربه ويغزلها بلقطات أرشيفية لمظاهرات 68
الشهيرة.وتنتبه حواسنا أكثر حين نعلم أن رشدي رئيس مجلس الإدارة هذا له علاقة
بكارثة المساكن التي تهدمت على الفقراء.
وحين تدخل الحكاية بعدها الثالث أو العاطفي
حين ندرك أن "الجاني" مصطفى يعرف تهاني زوجة "المجني عليه"،لم
نعد لمثلث الزوج والزوجة والعشيق،بل ما هو أجمل واثرى دراميا، فنعرف من خلال
التحقيق عن أن مصطفى وتهاني أصدقاء بدأت وماتت بينهما قصة حب خلال خطبتها لسامي "مهندس"
صديق لمصطفى،وسامي هذا هو من تم تقديمه ككبش فداء فى كارثة المساكن على يد من أصبح
زوجها،
كل تلك الحكايات المتداخلة مغزولة بعناية
شديدة فى السيناريو،والمخرج يقدم مشاهده بالطريقة المشار لها سابقا،معظم المشاهد تحوي
عدة شخصيات وفى الانتقالات بين تصرفاتهم وانفعالاتهم وباستخدام الموسيقى ،وكسر
الحوارات الطويلة بلقطات"انسرت شووت" لانهيار المساكن مثلا.
والمخرج الذي بدأ حياته مونتيرا،وقدم كل هذه
الأفلام البارعة فى تصوير مشاهد الشارع-راجع مثلا حياة أو موت-سنجده هنا يقدم ب"سلاسة
الخبرة" مشاهد علاقة تهاني وخطيبها سامي وصديقهما مصطفى بجوار نيل
القاهرة،حيث بهجة الشباب أثناء المشى على الأقدام وخلفهم العمارات والفنادق
الغالية،أو وهي تريد التصوير بجوار سيارة فارهة،ثم الانتقال فيما بعد لمشهد لقاء
مصطفى بتهاني بعد موت سامي،هذه المرة يبدأ المشهد بالسيارة الغالية وقد تغير
ماكياجها وملابسها بعد أن تزوجت الثري رشدي رئيس مجلس الإدارة،وهذه المرة لن يكون
الشارع مصدر الفرح بل مكان مقفر قبيح حيث يتواجهان بأزمة جيل!
هذه المرة سندرك تحول الشخصيات:مصطفى الممتلئ
بالصحة وقوة الرأي صار عصبيا مريضا نفسيا مرتبك المشاعر،وتهاني الجميلة الحيوية
المبتهجة ضاع بريقها رغم ثراءها الآن، وفى ذكاء شديد يتم تقسيم المشهد على
مشهدين،النصف الأول تحكيه للضابط وكأنه عتاب صديق لصديقته والعكس على اختلاف دروب
الحياة واختيارات الزواج،ثم تتذكر وحدها بقية المشهد بعد خروج الضابط من المكتب
لنرى مصارحة مصطفى لتهاني بحبه الذي كتمه بداخله مراعاة لصديقه بينما هي تزوجت بمن
قتله فى السجن،
تعود تهاني للبيت فنرى اخراجيا الشارع كصور غائمة
بجوار السيارة ودموعها تنزل،فلم يعد هذا شارع الجيل الحالم!بل ستصل لبيت زوجها
الثري الذي يرى أن كل كلام مصطفى جزء من حقد الحاقدين ومؤامرة على الناجحين مثله
من المسؤولين فى الحكومة.
يصل التقدير –عندي- لمداه لرؤية الفيلم مع
نهايته غير المتصالحة بل الكاشفة،فحتى الضابط تصله أوامر بالتمهل قبل فتح القضية
الأكبر التي هي أكبر من تهاني ومصطفى وسامي وغيرهم، قضية الفساد الذي ينخر الوطن
ويعد رشدي مجرد حلقة فيه،لن يخدر الفيلم متلقيه عبر "التطهير الدرامي"،بل
النهج التحريضي هو الأساس،عليه أن يفكر جيدا فى اسم الفيلم وما شاهده،على من نطلق
الرصاص،والجميل أنه بلا علامة استفهام،لأنه ليس سؤالا بل كأنه دعوة للانتقام ممن
سلبوا هذا الوطن مقدراته،والأبرع فكريا أن الحل الفردي لا يفلح،فمصطفى تطيش
رصاصاته كأنه سعيد مهران آخر،فالرصاص لن يصل لهدفه إلى حين نعود للمرة الألف
للعنوان وهذه المرة لكلمة "نطلق" وليس "اطلق"..فالحل يجب أن
يكون جماعيا!
***
نُشر بمجلة أبيض وأسود
العدد 35 نوفمبر 2014