سمع هس..
عذوبة أغنية الصعاليك فى مواجهة لزوجة النشيد الوطني !
أشرف نصر
"الحياة تراجيديا لو نظرنا لها عبر لقطة مقربة .. ولكنها كوميديا لو نظرنا لها عبر لقطة بعيدة"
هكذا تحدث واحد من أهم صناع السينما فى تاريخها، شارلي شابلن، الذي كتب وأخرج وأنتج، وقام بالتمثيل فى علامات سينمائية -من المعروف مكانتها ومكانة صاحبها-في الفن السابع، والاستشهاد بشابلن ليس لظهور شخصيته الفريدة (الصعلوك) فى فيلم سمع هس، وفى الفيلم سنعرف محوريتها، بل لأن فلسفة شابلن فى أفلامه التي تلخصها هذه االجملة، هي التي تمنحنا مفتاحا لفيلم (سمع هس)، ولعالم كاتبه المثير للدهشة والبهجة دائما، الكاتب ماهر عواد، حول النظر للحياة فى لقطة واسعة لرؤية كوميديتها بدلا من الهزيمة أمام مأساوية تفاصيلها،،
يشارك عواد "اللعبة" هذه المرة شريف عرفه مخرجا ، وممدوح عبد العليم وليلى علوي وأحمد بدير وأحمد عقل وسهير الباروني وحسن كامي فى التمثيل، ويبدو لافتا أن يكون الفيلم من إنتاج الثلاثي: عواد وعرفه وعبد العليم،
البداية تضعنا فى قلب المشهد مباشرة، نحن فى شادر شعبي به المهرجين، والمطرب حمص وحلاوة، ورجل يسكر ويضايقهما فيقصان شاربه ويهربا، لينزل تتر الفيلم "سمع هوووس" ، كتب اسم الفيلم حسب نطقه، وهي المقولة التي تقال فى الفرح عند محاولة تنبيه الجمهور لما سيسمع الآن، ليتوقف عن الضجيج وينصت، وهنا استخدام تفصيلة كلمة تستخدم من قلب اجواء عالم الأفراح والغناء، وبالفعل سندخل مع الفيلم عالما جديدا مختلفا عن التيار الواقعي السائد، نحن سندخل مع الكاتب ماهر عواد، عالما من الشخصيات الهامشية المحبة للحياة والتي تواجه جنون الحياة بجنون أكبر، وسوف نرى هموم الواقع مغلفة بطرافة كوميدية، لا تقف عند الايفية اللفظي، بل كوميديا الموقف، وخفة الظل فى الحوار تنبع من لغة كل شخصية
والفكرة ببساطتها "الماكرة -المكر الفني" ربما لا تتجاوز سطورا قليلا حتى لو حكينا كل أحداث الفيلم "حمص وحلاوة مطرب وراقصة يغنيان فى الشوارع أغنيتهما الخاصة بهما، والبسيطة جدا، ويسرق اللحن موسيقي شهير،ويضع عليه كلمات لنشيد"وطني" رنان ، ويحاولان استرداد حقهما فيقف المجتمع كله ضدهما" والشخصيات هنا هي التي تتصادم بشكل كوميدي وتصنع المفارقة فى موقفها من الأزمة!
فأزمة حمص وحلاوة أنها اغنيتهما، بينما المجتمع كله (بخلل معاييره) يراهما متشردين ليس من حقهما الشكوى ، بل عليهما الفخر بما فعله الموسيقي الكبير "غندور " من وضع كلمات وطنية بدلا من كلماتهما، وبمشرط الجراح لا يرحم الفيلم غندور ويكشف ماكينة الإعلام الكاذب، عبر رؤيتنا لاختطاف غندور لرجل متشرد عازف بيانولا (شارلي) ثم تهديده للحصول على لحن جديد (عندي مناسبة وطنية ومزنوق فى لحن) فيحصل على اللحن الذي سمعه شارلي من حمص وحلاوة،،والمؤلف (الذي سيفبرك أي كلام) جاهز ويدخن الشيشة و"يبدع" وهو يهز رأسه لربة الإلهام
، لن تقف السخرية ابدا فى الفيلم، فغندور يرقص فى الصحراء وعلى مركب فى النيل (فى "بارودي" أو محاكاة ساخرة لما نراه فيما يسمى بالأغنية الوطنية) ، وعند نزولها للأسواق طبعا تحقق النجاح والانتشار ، فالحساسية الوطنية حاضرة، والشوفينية ملتهبة عند الجميع، حتى أننا نرى السكير الذي يضايق حمص وحلاوة، وطامعا بالطبع ككل السكارى فى جسد حلاوة، يتوتر جدا من سماع (النشيد واللحن الوطني العظيم) يغنى بطريقة حمص وحلاوة وفى كبارية! هكذا نجد مفارقات انهما صارا لصين لما هو فى الأصل ملكهما ، وهو لحن اغنيتهما البسيطة العذبة، واللص غندور بأغنيته الزاعقة اللزجة صار صاحب الحق، وسنرى أن حساسية السكير "الوطنية"ليست قصرا عليه، فالجميع يقف ضدهما من الأثرياء ، وحتى -للمفارقة-الفقراء كماسح الأحذية والصياد وغيرهما،،وحتى من يقف معهما يكون بلا حول ولا قوة مثل عازف البيانولا شارلي، وعفارم عازف الربابة،
فى الفيلم يمزج بين السياسة -فى فكرة اللحن الذي اصبح بالتضليل لحنا وطنيا ، يصبح المساس به خيانة للوطن! -بمصيبة اجتماعية وكبت جنسي جعل سلوك الرجال تجاه النساء ككلاب لا تريد سوى نهشها مثل صفصف بيه منتج الكاسيت ، "المثار دائما" ،وزبائن الكباريه وزبائن الافراح، وخط الشباب المنطلق كالقطيع فى الكورنيش لاصطياد اي ضحية ، وصولا لحق إنساني ضائع حول الفقراء الصعاليك وموقعهم فى الحياة، فحمص يريد حياة طبيعية وأن ينجب من حبيبته، دون أن يجدا فرصة لتلك الحياة الطبيعية..والمؤلم فى مفارقة أن لا أحد يريد لهما تلك الحياة فصاحبة البنسيون الذي ينزلان به تطردهما فى أقرب فرصة، والمحامي يبيعهما ويقبض الثمن لخيانته
..أما الفارق والمبهر كيف مرر الفيلم سخريته من القضاء، (لاحظ محاولات التقديس المستمرة للقضاء المصري، كأن الحديث عنه كفر بالله والوطن) فهو يقدم وبنفس طرافة الفيلم القاضي (خيري بشارة) الأقرع الجالس ممسكا بمطرقة (كلعب الأطفال "بزمارة") وكيف يحضر المحامي بالبيجامة، وكيف يأبي القاضي سماع شهادة شارلي عازف البيانولا، بحجة أنه معتوه، وهنا نرى كيف ينزع تلك القداسة المزعومة ويظهر أنه مؤسسة ،كالإعلام وكالمجتمع ككل ، لا يضع حمص وحلاوة إلا أسفل حذاء غندور وأمثاله، وقد تحولت المحاكمة لمهزلة وضرب من حمص وحلاوة فى الجميع،
ومن الذكاء الفني للمخرج تصوير المشهد فى ديكور، كأننا بالفعل فى مسرح وليست محكمة، وقدر مرر الفيلم ذلك عبر "استايله" الساخر ،بداية من السيناريو مرورا بالتمثيل وصولا للإخراج، فنلاحظ كيف أدي الممثلون ادوارهم بنفس روح اللعب والكوميديا وحتى فى توصيل معلومة وربط المشاهد سنجد مثلا عازف الربابة عفارم يغني(55 دكتور، غير التمرجية، وحمص فى الإنعاش، وحلاوة عملية) ،
واخراجيا كيف تحرك المخرج شريف عرفة بحيوية مع أبطاله فى مشاهد سريعة مكثفة، دون مبالغات فى التكنيك، أو حتى رسم مينزانسين معقد للحركة، بل تعمد البساطة، وسرعة الإيقاع ، وتعمد البدء فى منتصف الحدث فى المشهد، والقطع السريع دون تشبع ، للنقل لغيره، حرصا على اللهث مع حمص وحلاوة ، وايقاعهما فى هذه الحياة، وتوجيه ممثليه فى الأداء بمرح مع استغلال موسيقى مودي الإمام كمشهد دخول حمص وحلاوة والبنسيون ، والمواجهة المرتقبة مع عفارم، المتأهب للص خطير ويجهز الربابة كسيف وب"كلوز آب "على اكره الباب، ثم يكتشف انه حمص صديقه الذي يقفز لاحضانه ، وكعادتها تزغرد حلاوة. (تخلي المخرج بعدها عن تلك البساطة لصالح تقليد الإخراج الهوليودي فى أفلام الأكشن)،
وكما قدم سمع هس الخيارين، البعض يفضل احتمال صدق ومعاناة حياة حمص وحلاوة ، والبعض يختار نمط حياة غندور وراحة المؤسسة وبريقها،وكل يختار مساره، والأهم هنا هو الإشارة إلى اتساق ماهر عواد فى أفلامه منذ بدايتها حتى آخر ما ظهر له،
وسنشعر بصلات القربى بين حمص وحلاوة وبقية أبطاله، ليس فقط فى هامشيتها وحبها للفن والحياة، بل سنلاحظ دائما أن الحاضر هو الأساس فلن نسمع سوى شذرات عابرة عن تاريخها، كأنها بلا تاريخ، وليس لها مستقبل واضح المعالم، بل يقذف بها لحاضر ضاغط وعليها النجاة ، تماما كما يحدث للفقراء وصعاليك الدنيا،(وكشارلي شابلن دائما فى دور الصعلوك) عليهم النجاة والحياة الآن فورا،
وهنا تصبح المقاومة واجبا وليس رفاهية ،مثلما ظل حمص وحلاوة يقاومان ولو بالغناء (سلاحهما الوحيد) فى مواجهة هذا الواقع الكريه. وحتى ينتهي الفيلم بصورتهما على بيانولا شارلي بدلا من غندور وهما يصرخان فى الجميع، بل وفى وجوهنا كمشاهدين : هتشوفوا.
ليس بالضرورة التقيد بفكرة سنة 2000 كتاريخ كان من المفترض أن "يعدل فيه الميزان المقلوب" بل الأولى اعتبارها إشارة للأمل والمستقبل، والتعلق بالأمل دائما سمة الصعاليك للقدرة على الاستمرار ، كل جهامة الواقع وما تحدثنا عنه بشكل جاف، عالجه الفيلم فى مشاهد لن يتوقف فيها الضحك، لكن ضحك لا يلهي عن التفكير، ضحك سيجعل الدموع تتسلل للعيون، أو بالأحري صحكات من فرط الشجن ، كمشهد بديع يتم ضرب حمص فيه ، وتحطيم أسنانه ومحاولته الغناء فلا يقدر، وحلاوة التي تم اجهاضها من الضرب تحاول التسرية عنه ب"فشرها المعتاد" ، ويختلط ضحكهما -المبتسر-بالدموع وهي تحتضن حمص، فليس لهما غير حضن بعضهما البعض ولو لفظهما العالم بأسره.
***
نشر بمجلة أبيض وأسود
العدد 41 مايو 2015