القاهرة ــ "القدس العربي"
ــ محمد عبد الرحيم:
"ويُكمل المؤرّخ حكايات ذلك اليوم المشهود
والذي كانت فيه العلامات ترخ على المدينة
مثل علامة الغراب الذي كلّم الناس
واليمامة التي باضت سبعين طائراً لم يستطع
العلماء تصنيف بعضهم حتى اليوم
والكثيييييييييييير الكثير من الكرامات
وكان الناس يسمعون روايات المؤرّخ بيقين
لا يدنو منه شيطان الشك
ولكن بعضهم يحرّفون في التفاصيل ليس إلا
لأن عظمة السلطان ولد منذ زمن بعيد
قبل ميلاد عجائز المدينة
ويقولون ولد قبل المؤرّخ
وفي رواية أخرى
أنه ولد في عصر ما قبل التاريخ".
هكذا تتواتر "حكايات عظمة السلطان" للكاتب المصري أشرف نصر، حكايات متوارثة عن الحاكم الإله ومخاليقه، الحاكم .. التافه، الهازل، الباطش، الدموي، المخصي، الثرثار، الجبان، الخوان. ولنا أن نضيف ما لا يحصى من الصفات، التي تتوافق وهذه الشخصية المُستمدة من تاريخنا البعيد، والتي للأسف لم تزل تطالعنا حتى الآن في العديد من البلاد، والتي تنتمي إلى لغتنا الجميلة.
ثراث ثقيل
تتناص حكايات نصر والكثير من النصوص التراثية ــ مناخ الحكايات دون شخصياتها ــ بداية من ألف ليلة وليلة، ووصولاً إلى أعمال عالمية تناولت شخصية (الطاغية)، وفي مقدمتها رواية "خريف البطريرك" لغارسيا ماركيز ــ بما أن تراث الشعوب المغلوبة على أمرها واحد ــ وبما أن شخصية السلطوي الغبي تعد خروجاً عن المنطق، رغم كونها تعيش أكثر في الواقع، لذا كان التعامل معها يأتي دوماً من خلال مجاوزة المنطق، وبالتالي لا يليق بها سوى الفانتازيا أو الأسلوب الأسطوري، وهو ما يؤكد مظاهر هذه السلطة أولاً، ثم حياتها التي لا تستقيم مع كل ما هو عقلي أو مألوف. ويبدو التساؤل معقولاً .. ما الذي يمكن أن يُضاف في مجموعة الحكايات السبعة عشر التي صاغها الكاتب؟ لتأتي الإجابة بأننا لم نزل نحيا تلك العصور، ولا فارق بين سلطان ورئيس دولة شرقية، وبالتالي من الممكن أن تمتد الحكايات لأكثر من هذا العدد الذي اكتفى الكاتب به.
ولكن ثمّة أمل
تدور الحكايات في فلك العظمة الفارغة للسلطان، وتبدو الشخوص في معظمها كضحايا للحكمة الضائعة للرجل الدموي، الفارين من الجوع والظلم، الموهوم الذي تحوّل إلى مجذوب، كحكاية (الصبّاغ) العاشق، الذي توّهم أنه عشق امرأة السلطان، بل تمادى بأن المرأة ذاتها بادلته العشق، فلزم القصر كالمُريد، بل وتمادى السلطان بأن وفّر له الطعام، وكفّ الحراس عن ضربه، فلا يتورع صاحب الحكمة الضالة أن يجعل من العاشق المجذوب لعبته، لأنه فقط عشق امرأة في خياله، هي في الأصل من ممتلكات رجل السلطة، وكأن الأخير جعل منه فزّاعة لكل مَن تسوّل له نفسه الاقتراب مما يملك.
ولكن .. هل من أمل؟
لم يستسلم الكاتب إلى حسٍ يائس، رغم المفارقات اللغوية ما بين العامية المصرية والفصحى، وكذلك المواقف الساخرة، لكنه ومن خلال حكايتين حاول بدوره تجاوز ما يحيط الحكايات، كاسراً إيقاع هذا التواتر من خلال شخصيتي (المختلف) و(الثائر). أو كما أسماهما .. (الغريب) و(الحدّاد).
فالأول كان لا يرافق سوى عزلته، ولا يحكي إلا لأمرأة صماء بكماء، لا يكلم أحداً، ولا يؤم مجالسهم، فقط .. يومئ لهم بالسلام، فعاداه الجميع، وكان عليه دفع الثمن بمواجهة الانتقام، والانتقام هنا كان من الناس/الجماهير، فضربوا المرأة وحرقوا بيت الغريب وهو بداخله. فأن تكون صامتاً مختلفاً لن يكون مصيرك إلا في يد الغوغاء، يفعلون بك ما شاءوا، لأنك باختلافك تكشف لهم مدى تفاهتهم وانحطاطهم.
ونأتي إلى الثوري/الحداد، الذي رفض دفع الإتاوة للسلطان وعصبته ــ الضرائب المفتعلة في عصرنا السعيد ــ لم يخش أحد، بل وقاتل عصابة السلطان من الحرس، وخاصة جابي الضرائب، الذي نجح الحداد في أسره، وجعله مُسخة لممثلي السلطان، فما كان من حرس السلطان إلا الهجوم على الحداد، فقطعوا رأس جابي الضرائب الأسير أولاً، ثم رأس الثائر أخيراً ..
"ولشهور طويلة ظلت رأس الحداد ــ بحراسة حرّاس أشداء ــ معلقة
على الدكان
حتى أنزلوها ودفنوها بمكان مجهول
بعد أن تكرر أمر عجيب في الليالي الطويلة
فقد تكرر ــ رغم الحراسة ــ نثر الزهور بفعل مجهولين تحت
رأس الحداد
وبعدها صدرت فتوى شيخ المدينة
بلعنة الحداد وإثم ذِكر سيرته
وظلت حكايته تثير الرعب
وحكاية ناثري الزهور تثير التساؤل".
**
جريدة القدس العربي 18/3/2022
