فيلم ثلاث قصص..
ثلاثة من دوائر حياة الإنسان
أشرف نصر
ربما مشاهدة فيلم:ثلاث قصص(دنيا الله- 5 ساعات - إفلاس خاطبة)وهو إنتاج 1968،فى عامنا هذا تثير
الشجن على أحوال السينما المصرية الآن فبدلا من البناء على مغامرات وانفتاح الرواد ومواكبتهم الدائمة لتجارب السينما العالمية،تضع السينما المصرية نفسها الآن فى أضيق "مربع" من "مربعات" هذا الفن،على أي حال،عبر تاريخ الفن السابع سنجد العشرات من هذه التجارب مصريا –قديما- وعالميا –دائما- لتقديم عدة أفلام قصيرة فى فيلم واحد –ولكل فيلم قصير مخرج وفريق عمل مختلف- يجمع بينها فى الفيلم الطويل رابط مشترك،وهي ميزة تبرز ما يشبه التنويعات على لحن واحد،وفى فيلمنا،نبحر فى قارب مصنوع من خشب القصة القصيرة،من خلال ثلاثة من قصص "آباء" الأدب فى مصر. - دنياالله: قصة:نجيب محفوظ-سيناريو:عبد الرحمن فهمي-إخراج:إبراهيم الصحن بطولة:صلاح منصور–ناهد شريف -5 ساعات:قصة: يوسف إدريس-سيناريو:بكر الشرقاوي-إخراج: حسين رضا بطولة:رشوان توفيق–نادية لطفي -إفلاس خاطبة:قصة:يحيى حقي-سيناريو:إسماعيل القاضي-محمد نبيه-إخراج: محمد نبيه وبطولة:سميحة أيوب-عبد المنعم إبراهيم البداية فى فيلم " دنيا الله" تضعنا مع الشخصية الرئيسية مباشرة وهو العم إبراهيم –الساعي فى مصلحة حكومية-وعبر لغة الصورة،ودون حوار،سنفهم هامشيته فى المكان،والعلاقة المتنافرة بينه وبين المكان،وبينه وبين شخوصه، فهو يوزع الملفات على موظفين مشغولين، كل فى عالمه،بين من يتحدث فى التليفون ومن يثرثر مع صديقه،ومن ينظر لفتاة تقف فى بناية مقابلة للمصلحة وهو يغازلها بالإشارات،والعجوز عم إبراهيم هو كم مهمل،ينظر له الجميع بضيق أو عدم اهتمام، ثم فى مشهد ثان هو فى المقهي وبائعة اليانصيب تمر على الطاولات حتى يهمس لها –زبون دعارة- فتذهب معه وهو يعد النقود،وثالثا عم إبراهيم فى بيته يأكل مع زوجتة فى غرفة بائسة وزوجة عجوز تقاربه فى سن الستين،ولا يبدأ الحوار إلا بعد الحلم ب" ياسمينة" بائعة اليانصيب والنطق بإسمها،نحن إذن أمام تلخيص لتاريخ شخصية فى مشاهد قليلة،ولب أزمتها ومحور الحكاية،ومن جمال وأساسيات فن السينما،أو فلنقل امكانات توفرت عن فن القصة القصيرة أو الرواية أو غيرهما،أنها تستطيع تلخيص عشرات الصفحات فى الوصف بكادر واحد،وهو ما حدث هنا لو عدنا لقصة نجيب محفوظ،وقارناها بالفيلم،ولا نتحدث عن تفضيل لفن عن غيره،وإنما أدوات مختلفة فى كل منهما،عم إبراهيم الذي ضاع عمره هكذا،نجده فيما بعد يتولى قبض مرتبات الموظفين،اولئك الذين لا يحسون به،بين المتزوج من ثرية،أو"العايق"أو غيرهما،وتنقلب حياتهم بسبب عدم عودته، فمرتب الشهر اختفى معه، من جمال الفيلم سنجده فى نقطة التحول الدرامي فى الحدث،نقلنا فى تكثيف من فعل "لم نره" لرد الفعل مباشرة،بمعنى أننا نجد عم إبراهيم عائد ومعه مرتبات الموظفين،وهو فى الشارع يقف أمام احدي الفتارين،حيث يرى بذلة فى واجهة المحل،ثم القطع مباشرة عليه فى تاكسي وهو مرتديا للبذلة ويشير لبائعة اليانصيب "ياسمينة" فتركب معه ويتحرك التاكسي. الحدوتة فى مستواها الواقعي سنجدها تكمل مغامرة العجوز،الذي لا يرغب سوى فى سرقة أيام متعة قبل انتهاء العمر،فيذهب للاسكندرية ومعه الفتاة الجميلة،ورغم الضيق والخوف من الشرطة لكنه ينجح فى سرقة بعض المتعة،حتى تنتهي النقود،ويتغير الحال بالفتاة التي تنقلب عليه حين تدرك بسرقته للمال،وحتى نهاية المغامرة بالنهاية الواقعية بالقبض عليه،لكن لأن نجيب محفوظ عودنا على تعدد المستويات بين الواقعي والفلسفي فى قصصه ورواياته،يليق الفيلم باستيعاب معاني القصة فى بعدها الفلسفي،حول معنى حياة الانسان فى دنيا الله،وأزمته بين الإلتزام بالطريق القويم وبين الرغبات التي تفتك بالانسان،سنجد أزمة الشخصية "إبراهيم" ورغبته الوحيدة فى اقتناص ما ضاع من متع ،ومع حس أخلاقي بل ويمكن القول أنه ديني – زيارة المرسي أبو العباس،وابتهاله الأخير لله أن يغفر زلته- ونبل الشخصية يتجلى طوال الفيلم،فحتى حين سرق المرتبات أرسل راتب الموظف الوحيد صاحب العائلة المديون،وأرسل مرتبه لزوجته الفقيرة،وفى مغامرته بالإسكندرية سنجده يعامل الفتاة كسيدة مجتمع لتستمتع بما سلبه منها الفقر،وصدمته حين حاولت سرقته بأنه يريد اعطائها المال فى نهاية الرحلة، وفى مشهد الذروة والمصارحة بين العجوز وياسمينة سنجد زوايا التصوير من أسفل وهما جالسان على الأرض ويسكران،والإضاءة الخافتة والسرير كقضبان تحاصرهما،ومثلما قدم الفيلم الشخصية فى البداية بلغة الصورة ومشهد الذروة مستغلا الصورة والحوار ومكونات الكادر من تصوير وموسيقى وإضاءة وتمثيل الخ ينقلنا فى أجمل مشاهد الفيلم القصير- والطويل معا- لمشهد حلم لعم إبراهيم وهو يرى نفسه انقسم ثلاثة كل منهم فى مكان،وهو يزحف تجاه ياسمينه وتزحف نحوه،ليأتي مشهد الابتهال فى مسجد المرسي أبو العباس والقبض عليه بعدها،فالعم إبراهيم الطيب لم يأخذ من دنيا الله سوى أيام خاطفة عكرها الخوف والمتاعب وخرج من دنياه كما دخلها، هامشيا،حزينا. أما القصة الثانية "5 ساعات" نجدها تركز على الحدث،فالموقف هو البطل وليس الشخصية كالفيلم السابق،ففى بداية مشوقة نحن أمام تربص وإطلاق رصاص على ضابط أمام بيته، ويقذف بنا الفيلم فورا للحدث عند وصوله للمستشفى فنعرف فى حوار خاطف،أننا أمام 5 ساعات مصيرية هي وقت الجراحة،لا وقت هنا سوى لأزمة الفيلم :الضمير المهني والانساني فى مواجهة قهر السلطة،فالهم السياسي هو موضوع الفيلم والقصة بعد أن كان الهم الوجودي فى القصة الأولى،فالضابط المصاب من الضباط الثائرين على نظام الملك،والبوليس السياسي يريد من الطبيب قتله بإهمال الجراحة،وتركه ينزف، لكن الطبيب وفريق العمل يخوضون المغامرة بشرف رغم أن النتيجة هي موت الضابط بشكل قدري المهم هو تأدية واجبهم والدخول للسجن ثمنا لتأدية الواجب. سنلاحظ أن الفيلم ينسجم مع التوجهات السياسية للنظام الحاكم وقتها،لكن ما يهمنا أكثر من الجدل السياسي هو البناء التشويقي فى إجراء الجراحة واستغلال المكان والإضاءة والإيقاع السريع،ورسم ملمح بارز للشخصيات فلا يمكن نسيان دور طبيب التخدير"حمدي أحمد" الساخر المعتاد على المعتقلات،والخبير بنوعية السلطة الحاكمة والذي يضع الجراح"د.إبراهيم" أمام مسؤوليته الأخلاقية مباشرة أن يخاف أو يتعامل بنزاهة ويتحمل تبعات قراره،ويكون منطقيا أن نجد بصريا فى آخر لقطات الفيلم "كادر مقلوب" للبيوت كعلامة بصرية "وإن كانت مباشرة" لخلل النظام. أما القصة الثالثة:إفلاس خاطبة سنجدنا رغم البداية الكوميدية "الفارس" للبطل "فواز" وهو يقع من على السرير ويتعثر فى السجادة وينسكب عليه اللبن فى المطبخ ويجلس على إبرة الخياطة،وهي بداية من أسهل وسائل الإضحاك للمتعة الخالية من أي فكرة ورائها،سنشعر بإحباط بعض الشيء،لأن موقع "إفلاس خاطبة" هو الثالث وبعد شحنة فنية ومعنوية كبيرة،وربما كان فى الأمر من زاوية أخرى "ريليف/ اراحة" لأعصاب المشاهد بعد الهم الوجودي والهم السياسي لنصل لهم اجتماعي،ففواز يريد الزواج ويبحث عن شريكة العمر عبر الخاطبة "بديعة"،ترتقي الكوميديا بعد البداية "الفارس" لكوميديا الأنماط الاجتماعية، حيث نجد الأب الذي يدعي التدين ويضع شروطه على العريس المنتظر هو مجرد مقامر،والعائلة الشعبية تدعي أنها من طبقة أرقي،حتى نصل لفتاة عصرية ترفض منطق الزواج التقليدي وتضع فواز أمام مسؤوليته فى أنه يجب أن يختار هو رفيقة حياته عبر العقل والحب –فى دور شبيه لدور طبيب التخدير فى الفيلم السابق- فيصل فواز لقراره بالزواج من الخاطبة. الفيلم الخفيف-وليس فى التوصيف حكم قيمة-هو آخر الأفلام أو النقطة التي فى نهاية الجملة لنعود للفيلم "ثلاث قصص" ككل،فنرى القصص الثلاثة تنسجم حول أمر هام جدا وهو فكرة القرار.قرار إبراهيم الساعي العجوز أن يحيا،وقرار الطبيب إبراهيم أن يقدم الواجب الوطني والأخلاقي على أي مخاطر وقرار فواز بأن يختار من يتزوجها.فلابد من إمتلاك الإرادة واتخاذ القرار كي نتحرك فى دوائر الحياة كما نحب.
***
نشر بمجلة أبيض وأسود
العدد 36 ديسمبر 2014