الصعاليك.. الصعود من القاع للمستنقع !
أشرف نصر
فيلم: الصعاليك
تأليف وإخراج: داود عبد السيد
بطولة: نور الشريف – محمود عبد العزيز- يسرا
بعنوان مكتوب على الشاشة يضع الكاتب والمخرج داود عبد السيد المحددات المكانية والزمانية لفيلمه الروائي الأول "الصعاليك"
،الإسكندرية 1962 ،ومع صوت عبد الحليم حافظ فى الراديو يغني واحدة من "الأغاني الوطنية " يجلس مرسي وصلاح يأكلان،،
ويقدمهما بخفة ظل كجائعين لا يملكان المال،ولكنهما "يتسابقان" على من منهما صاحب الدعوة،رغم أن النهاية طبيعية الضرب أو الهرب،
الإسكندرية مدينة أثيرة عند داود عبد السيد (وهي كذلك كمكان عند معظم الكتاب والفنانين – وزمنيا فى فترة كونها كوزموبوليتان/عالمية رحبة للبشر على اختلافهم، قبل هجرة الأجانب واختفاء الثقافات المتعددة لصالح الصوت الواحد) ،
وللمدينة والحنين للمرحلة عودة فى مسيرة المخرج فى فيلم"رسائل البحر"،
وأما الزمن نحن فى عالم الستينات ومطرب المرحلة الناصرية يغني للفلاح والعامل فى أغنيته، وأبطال الفيلم من العمال، لن نجدهما بالصبغة "الرسمية/المعتمدة" يكدحان لبناء أمجاد الوطن،لكنهما من الصعاليك/المتشردين (وهنا استخدم الوصف للتحقير كما يستخدم عادة، دون إضفاء أي ظلال للمفردة ونعني تاريخيا ظهور بعض الشعراء منهم بل والمشاركة فى الثورات ضد الحكام،وهو على أي حال امر تاريخي فى تاريخ العرب،واكتفى بإضفاء سمة بارزة تضفي نبلا على شخصيتيه مرسي وصلاح وهو صداقتها الأبدية) ويحاولان العثور على المال والخروج من قاع المجتمع بأي طريقة،
يهربان السجائر من الميناء، يعملان فى مختلف المهن الصغيرة كبيع المياة الغازية أو "منادي سيارات"،
وتظل مشاجرة عابرة مع "أفندي" من طبقة أعلى عالقة بأذهانهما طوال الوقت حين أخبرهما بموقعهما فى البلد والحياة مجرد صعاليك،
بإحترافية وسلاسة يقدم النقلات الزمنية ويتخطى الأزمنة الدرامية الضعيفة فحين يقدم شخصية صفية ويقدم حب مرسي لها ينقل لمشهدها وهي حامل تخدم زوجها وصديقه صلاح
، ثم يكمل رحلة مرسي كقائد سيارة أجرة الآن بعد أن كان تابعا"تباع" وكيف يرتكب حادثا تحت تأثير الحشيش فيدخل السجن
سنجد فى الإيقاع فصلا-طال- وصار رتيبا فى محاولات صلاح أن يتحمل هو المسئولية عن صاحبه،
وبينما يدخل مرسي السجن ويدرك أزمتهما فيصبح الإرتقاء من التشرد والسرقات الصغيرة لأخذ مكانة محترمة من المجتمع والحياة هي هم مرسي وصلاح، ومرسي خاصة بحكم أن رسم شخصيته على أنه العقل المفكر للصديقين بينما صلاح هو القوة أو "العضلات" ،
وخلال فترة السجن نجد واحدا من أروع الفصول فى الفيلم –وأظنه- فى السينما بشكل عام،
حين يمد الخطوط الدرامية لشخصياته فتقع كثمرة ناضجة فى تصرفاتها، وبلغة الحوار البديع فى أهم المشاهد (زي العجين لما بيختمر) أقصد عندما تجد صفية نفسها فى أحضان صلاح،
فهي تغسل ثيابه وتشم عرقه فيها، ينفق عليها، تراه ليلا ونهارا وصار ك"رجل البيت" بالنسبة لها وزوجها فى السجن، حتى أنه تقسم له أنها كانت تحس أنها فى أحضان مرسي وليس هو، وأن ما حدث "مقدر ومكتوب"
ويمكن الإشارة إلى لأداء وحوار صفية (يسرا) فى مشهد الخيانة ،والذي –فى رأيي- لم تقدم مثله فى رحلتها الطويلة، ليس تقليلا من أدوارها ورحلتها وإنما للإشادة بالمشهد،
المتفرد هنا هو أن ليلة الجنس بين صلاح وصفية تذوب فى الحياة اليومية للشخصيات، وتبدو كواحدة من الخطايا البشرية التي يحاول فاعلها طوال الوقت أن ينساها كأنها لم تكن،
ربما لو تغير الكاتب/المخرج كنا سنكون أمام "مناحة" الخيانة والإنتقام والندم والثواب والعقاب،
لكننا نتابع كيف يرتقي اللصان، فيهربان المخدرات مرة واحدة (وهنا يقدم أغنية بالأحضان يا بلدنا، تبدو – لي- الأغنية هنا بها مباشرة لاحداث الأثر الكوميدي، وليست فنية فى توظيفها كالأغنية الأولى)
وينطلقان لعالم الثراء ويزيد المال وتعيش صفية حياة الثراء لكن الثلاثة من "محدثي النعمة" لذلك سيحتاج صلاح للإرتقاء الطبقي العاطفي حيث تظهر منى الجامعية المثقفة التي تحبه لكنها لا تهتم بماله وتريد إكمال دراستها بالخارج،
فى رحلة مرسي وصلاح يتوهم صلاح أنهما وصلا للقمة بينما مرسي "الأكثر وعيا" بحقائق الحياة يدرك أنهما فى دائرة مغلقة، ووصلا فقط لقمة جبل الجليد، فحين كبرا كرجلي أعمال انتبه لهما "اللصوص الكبار"، يظهر الدواخلي، رجل السلطة والمال الذي يبتلعهما فى شراكة تحولهما للعبة فى يده،
وعودة لفكرة تحديد الزمن، هنا يقدم الدواخلي بيه ملامح الزمن الجديد (السبعينات) حيث يجب إنهيار القطاع العام وتدميره من أجل رجال المال والمفسدون الجدد، والشراكة تصل بهما للنهاية المنطقية حين يدمرهما الدواخلي عند فض الشراكة،
فى معظم الوقت يسعى المخرج لتقديم صورة بانورامية لحكاية مرسي وصلاح وفى مشاهد البحر والشارع يحرص على ختام المشاهد بالإبتعاد بحركة هادئة لتصبح اللقطة واسعة وفيها صلاح ومرسي كنقاط صغيرة/صعاليك،ضئيلا الشأن فى المدينة،
ولا يحاول "التدخل" لدى المشاهد "بإلحاح" إلا مرات قليلة، مثل تدخله فى مشهد سقوط الفاكهة من يد مرسي ونرى تدحرجها والكاميرا تتابعها، فى إحالة للثمرة المحرمة،
وفى رأيي أنها من مفردات الكاتب/المخرج وخارج سياق الفيلم، ويمكن ملاحظة توظيفها فى مكانها فى عالم فيلمه "أرض الخوف" حيث يحتمل الأخير تعدد مستويات القراءة والتفسيرات، لكن فى"الصعاليك"بدت مقحمة،
وإجمالا يظل الصعاليك، رؤية فنان يجيد تحليل مجتمعه وتغيراته عبر شخصيات مرسومة بعناية فى رحلة صعودهما "المفترضة" والتي وظفت المكان والزمن بدقة، ويمكن الإشارة لعالم فيلم"مواطن ومخبر وحرامي" كإمتداد وتطوير لقراءة المجتمع وتغيراته،
ويظل تقديما مؤثرا لمخرج متمكن من أدواته فى عناصر الفيلم،
كما يجدر أخيرا الإشارة للفلاش باك الوحيد فى الفيلم، وهو مشهد النهاية، ليس فقط لتذكر مرسي لمشاجرتهما وأول مرة سمعا لفظة الصعاليك
بل وأيضا إنطلاقهما كشابين سعيدين يلهوان
ولم يدر بخلدهما أنهما فى قبضة حياة تلهو بهما!
***
نشر بمجلة أبيض وأسود
العدد 44 أغسطس 2015
No comments:
Post a Comment