..داخل لوين ديفيس
روح الفنان القلقة وعبء الحياة
أشرف نصر
فيلم: داخل لوين ديفيس
تأليف وإخراج:الأخوين: جويل وإيثان كوين
بطولة: اوسكار ايزاك
إنتاج: أمريكي 2013
كدائرة مغلقة، نقطة البدء فيها هي نفسها نقطة النهاية، يقدم الأخوين كوين فيلمهما "داخل لوين ديفيس"، حيث مشهد البداية هو منتصف مشهد النهاية، حتى أنه يثير بعض اللبس خاصة ومشهد البداية/النهاية يبدو غريبا،
فنحن نرى لوين موسيقي الأغاني الفلكلورية فى الستينات يغني فى بار صغير، ثم يخبره صاحب البار أن هناك من قال أنه صديقه وينتظره بالخارج، وحين يخرج يجد رجلا لا يعرفه، فجأة ضربه الرجل وانصرف دون أن يبرر له ذلك،
ثم نجده هو نفسه مشهد الختام لرحلة تبدو كأنها يوميات أو أسبوع عادي فى حياة فنان، فبعد مشهد الغناء ثم الضرب "دون مبرر" واضح،
يُسقط الفيلم اي لوحة عناوين مثل لوحة: قبل ذلك بفترة، أو بعدها، نعيش مع الفنان لوين تفاصيل حياة يومية قاسية، قسوة الجليد الذي يحاصر المدينة، لكنها دوامة لا يمكن فيها لبطلنا الوقوف والانتظار، فهو لا يملك أي شيء، لا بيت ولا مال ولا حتى معطف للشتاء القارس،
دوامة فيها البطل دائما جامد الوجه يحاول اخفاء مشاعره، ولا يرضى للخضوع لابتزاز مواساة الآخرين الزائفة، فمشاعر الشفقة "الزائفة" والروتينية تبدو أقسى عنده من ذللك البرد والإفلاس وتجاهل المجتمع لموهبته وبراعته وإيمانه بالموسيقى،
يخرج فقط من بين كل الغليان بداخله شتائم ولعنات وكبت للانفعال حتى لا ينفجر فى وجه الجميع، فالكل يدعي التفهم للأمر،
فقد انتحر مايك شريكه فى الموسيقى والغناء، انتحر وتركه يواجه وحده ضغوط آليات قوانين سوق الإنتاج التي تهمش كل ما فني لصالح كل ماهو تجاري، وضغوط الحاجة للمال،
أو حتى ما يكفيه شر ذلك التشرد، وضغوط النظرة له كلعبة لتسلية الآخرين فى دعوات العشاء، أو كما سماها هو (لست كلب بودل مدرب)، ذلك حينما تدعوه أسرة من أصحابه ممن يساعدونه فى المبيت على الكنبة لديهم، وهم من الطبقة المتوسطة يقيمون حفلا للعشاء وحين يغني تقحم صاحبة البيت نفسها فى معبده السري، وذلك بغنائها معه فى الجزء الذي كان يؤديه صديقه المنتحر "مايك"، فينفجر لتعريتهم بتفاهة ما يفعلون، دون أن يُصرح بألمه،
فلو فكرنا بالأمر لثوان كمشاهدين، ف"مايك" وألم انتحاره وعدم توازن لوين بعد غياب مايك، أمر يخص لوين وحده، لا يحتاج من يذكره به، ولا من يحاول تأدية الغناء فى الجزء الخاص به فى أغنيتهما المشتركة، ولا طبعا من ينصحه بالعودة للغناء معه،
مثلما قال المنتج بعد أن قال ببرود قال حين سمع غناءه: لا أري هنا مالا، أو ربحا ماديا،انصحك بالعودة للغناء مع صديقك، طبعا نفس المنتج متحمس جدا لمطرب آخر لا يملك الموهبة لكنه يفهم السوق ويغني ما يحبه الناس من أغاني، ذلك المطرب المنسجم مع فكرة الخدمة فى الجيش ، ويسخر لوين هل دربوه أن يكون آلة قتل، فيتحدث بعنجهية ومرددا "بدعائية" الحديث عن تعلم الانضباط،
فى تلك الأحداث اليومية والتي تبدو عادية بسيطة، تأتي الصدمات الكبرى بنفس البساطة المؤلمة مثل صدمة حمل "جين" صديقته التي تعيش مع جيم حبيبها، والتى مارس معها الجنس مرة فى خطأ مشترك منهما، لكنها تحمله وحده المسئولية عن ذلك الخطأ، وحين يذهب معها للطبيب لإجراء الإجهاض يكتشف الأكثر قسوة أن شابة سابقة حملت وأنجبت منه دون أن تخبره بإحتفاظها بالحمل،
أما الأكثر صدمة ويمر عليه الفيلم بروعة وبساطة مؤلمة هو مروره فى سيارة أحد الغرباء بالمدينة التي عادت إليها أم ابنه أو ابنته (لا يعرف)، دون أن يقدر أن يذهب لهناك، فينظر للافتة المدينة ثم يكمل قيادته لسيارة الغريب الذي قبل توصيله مقابل أن يظل يقود السيارة،
الفيلم رغم بساطته على السطح لكنه بالفعل داخل وفى أعماق نفس بشرية، وروح قلقة تعاني فى صمت وصبر واحتمال، يقدمها الفيلم بصورة تغلي من الداخل بالانفعالات، وتأتي الصورة بتلك الأضواء الكابية بعيدا عن ألوان زاهية أو أي شئ يوحي بالبهجة، ومخففة أيضا عن فكرة القتامة، سواء فى الديكورات أو الملابس أو الإضاءة بل نجدها أبيض وأسود وفى أفضل الأحوال كأنها محايدة رمادية، فالصورة كوجه الممثل/الشخصية يتقبل الأمور السهل والصعب منها محاولا التماسك ودون أن يُظهر ما يمور داخله،
حتى حينما يعترف لوين أنه قد تعب وأدرك أن المصير "البشري" شديد البؤس، ويشعر أن المأساة أكبر من الحدث اليومي المتكرر بالبحث عن مكان النوم، ويدرك بؤس ما جرى لوالده، يكبر ويمرض ولن يقدر حتى على الدخول للحمام وحده، بل سيقضي حاجته ويحتاج من ينظفه،
ويقرر هجر الفن والموسيقى ليعود" للمسار" المجتمعي المقبول بالوظيفة الآمنة كبحار على سفينة مثل أبيه، يفشل أيضا فى الأمر، فرخصة الإبحار ضاعت ولا يملك المال لتجديدها، ولا حتى استعادة ما دفعه منذ ساعات للنقابة،
وفى لحظة انفجار اخير، يسخر من سيدة ريفية، قدمت لتغني فى البار، فقد أخبره صاحب البار أن من يحضرون للبار أصلا يرغب بعضهم فى مضاجعة جين وبعضهم فى مضاجعة جيم، وأنه –صاحب البار-ضاجع جين، وأن ذلك ثمن الغناء فى المكان، جين هي نفسها جين التي حاكمت لوين حين فعلها، وذلك ثمن الغناء، وما حصلوا عليه جميعا فى تلك "المفرمة" الهائلة بدلا من النجاح أو الشهرة أو حتى الحياة الكريمة، وحين يسخر من تلك الريفية وهل هي أيضا رقدت بفراش صاحب البار، يطردونه من المكان، ولكن جين طلبت من صاحب البار أن يعيد لوين للغناء فى البار، فيغني، ويخرج لمقابلة من قدم لزيارته وهو الرجل الغريب – زوج الريفية- الذي يضربه (فى البداية والنهاية)، نعم عرفنا المبرر الظاهري للضرب،
لكن يظل السؤال الذي يلازمنا بعد الفيلم، عن كل تلك القسوة اليومية وذلك الجليد والألم والدائرة التي يدور فيها لوين،مثلما دار المعادل الموضوعي الدرامي/قط فقده لوين -بالصدفة ودون خطأ منه- ويظل يدور باحثا عنه، ويعود القط لبيت أصحابه بنفس القدرية، مثلما ندور جميعا فى داوئرنا مسيرين ثم نعود رغم استنزاف مواهبنا، حياتنا،
والأهم أرواحنا،
نحلم بما غناه لوين وصديقه "مايك-المنتحر" لو كان لدينا
أجنحة !
***
نشر بمجلة أبيض وأسود
العدد 45 سبتمبر 2015
No comments:
Post a Comment