قصة : أشرف نصر
هكذا انزوى في غرفته تاركا سؤال أبيه عما به معلقا دون إجابة ..يحاول أن يمنع ضجيج إخوته الصغار فأخذ يقلب في شرائطه ليختار ما يسمع ..لم يستطع الاختيار فوضع واحدا منها في الكاسيت بلا اهتمام ..لا يعرف لماذا يسيطر عليه الحزن هكذا ..لم يكن ممن يخفون أعمارهم فكثيرا ما زاد علي عمره في حديثه مع الآخرين ..يحلم بتوقف الزمن كما توقفت ساعة الحائط ..رغم توقفها منذ شهرين لكنه كلما احتاج معرفة الوقت نظر إليها ، وكأنه يتمني أن تتحرك عقاربها فجأة ..يحاول أن يطرد من ذاكرته أحداث يومه الطويل ..فتحل بدلا منها أحداث عامه الذي لم يبق منه سوي ساعات قلائل ..في مثل هذا اليوم ترك فتاته دون أن يأخذ هديتها حين هنأته وسألته عما ينوي في عامه القادم ..قالتها بلهجة خاصة أو ربما تصور ذلك بسبب سخونة شمس ميدان التحرير ..تذكر يومها تلميحاتها المتتالية عن المستقبل والخطوات الإيجابية ..يغمض عينيه الآن محاولا استرجاع لحظات الفرح علها تزيل ما بداخله ..استعاد رحلته إلى مصيف الفقراء كما يسمونه ولياليه الجميلة ..مداعبات الفتيات ومشاغبات الأولاد وانطلاق مشاعره الغريب عليه ..ابتسم حين خطرت له قبلة البنت التي تعرف عليها قبل السفر بيوم واحد ..لكنه عاد واكتشف أن العناوين وأرقام التليفونات التي أخذها ليس لها داعي ..تجيئه صورة مديره في العمل الذي قضي فيه عده اشهر لم يحتمله فيها .. وعاودته الابتسامة حين وجد أن مديره لم يكن سيئا لهذه الدرجة كما لم يكن هو ملاكا لهذه الدرجة ..ضحك أكثر حين تذكر منظره وهو يسقط من الأوتوبيس الذي خدعه وانطلق بعدما ظن انه توقف لينزل .. وبدلا من ذلك هوي ليبقي في سريره عدة أيام لا يذكر عددها وإنما يذكر قسوة ألم ظهره ..ربما يضحك الآن لأنه تخيل شخصا آخر ذلك الذي ينزل بكل ثقة ورأسه المرفوعة لأعلي وصدره الرياضي وهندامه الأنيق يومها ..
كل ذلك رآه مطروحا علي إسفلت الطريق بين السيارات المسرعة ..وحين سقط وقام لم يهتم أحد بأن يساعده علي الوقوف ..تماما كما لم يهتم سائق الأتوبيس بالتوقف ليري ذلك الذي سقط ..انتهي الشريط فنهض يبحث عن غيره ثم ترك البحث حين وجد بين الأشياء رسالتها الأخيرة ..يقراها بتمهل ويجد لأول مرة أن مبرراتها قوية نوعا ما .. وأنها ليست ملزمة بما يراه هو عن طبيعة علاقتهما ..لم يغضب منها هذه المرة ولم يلعن زمنه القاسي ..ولم يحاول ككل مرة أن يخرج صورتها ليصب لعناته علي عينيها الخائنتين ..يجدها فرصة ليكمل بحثه في أوراقه المهملة ..وجد صورا قديمة وأوراقا صفراء ورسائل لم يرد عليها ..ووجد أيضا رسالة صديقه التي يعتذر فيها عن عدم إرساله خطابات في القادمة مدعيا عدم استقراره ..يهز رأسه ويندم علي انه سأله أن يبحث له عن عمل البلد التي سافر إليها ..يقلب في الكتب المكومة علي منضدته ..باحثا عن بعض القصائد التي يحبها عله يهدأ فلم يقدر علي القراءة فالقي بالكتب ليسكنها التراب مرة أخرى ..ها هو اليوم الذي حاول أن ينبه من حوله باقترابه يمر دون أن يسأل عنه أحدهم ..
في البداية ظن أنهم يعدون له مفاجأة ما ..أو علي الأقل سيهاتفونه معتذرين عن عدم حضورهم ..وسيداعبونه عن فرار السنوات من بين يديه ..لكنهم لم يفعلوا شيئا من ذلك ..لما وقعت عيناه علي شهادات التقدير التي تحتل جزءا من حائط غرفته يتعجب لأنه لم يحرقها ..لم تعد تهمه في شيء فلم يعد يكتب ولم يعد هناك من يريد سماع ما يكتبه ..حتى خدعته القديمة بأن يرسل بإسم فتاته للمجلات ثم يخبر المحرر بعد النشر بالحقيقة لم تعد تجدي ..يكره ذلك الحزن الذي يعتصر قلبه ..ويحس بسخونة أغسطس تجتاحه فجأة .. يزيد من سرعة المروحة فتزيد من الفتور الذي يسكنه ..
ذلك العام القادم لا يضمن استكماله بحياته هكذا .. ولا يستطيع أيضا أن يحلم بانقلاب ما أو تغيير مفاجئ ..يلتقط سماعة التليفون ..تدور ذاكرته علي الأرقام التي تسكنها يفكر في كل رقم ويستدعي صورة صاحبه أو صاحبته ..يجرب أحد الأرقام وبينما يجيئه الرد لا يجد لديه رغبة في الحديث فيضع السماعة دون أن يتكلم ..ينظر لساعة الحائط
ويغمض عينيه محاولا النوم .
أشرف نصر
هكذا انزوى في غرفته تاركا سؤال أبيه عما به معلقا دون إجابة ..يحاول أن يمنع ضجيج إخوته الصغار فأخذ يقلب في شرائطه ليختار ما يسمع ..لم يستطع الاختيار فوضع واحدا منها في الكاسيت بلا اهتمام ..لا يعرف لماذا يسيطر عليه الحزن هكذا ..لم يكن ممن يخفون أعمارهم فكثيرا ما زاد علي عمره في حديثه مع الآخرين ..يحلم بتوقف الزمن كما توقفت ساعة الحائط ..رغم توقفها منذ شهرين لكنه كلما احتاج معرفة الوقت نظر إليها ، وكأنه يتمني أن تتحرك عقاربها فجأة ..يحاول أن يطرد من ذاكرته أحداث يومه الطويل ..فتحل بدلا منها أحداث عامه الذي لم يبق منه سوي ساعات قلائل ..في مثل هذا اليوم ترك فتاته دون أن يأخذ هديتها حين هنأته وسألته عما ينوي في عامه القادم ..قالتها بلهجة خاصة أو ربما تصور ذلك بسبب سخونة شمس ميدان التحرير ..تذكر يومها تلميحاتها المتتالية عن المستقبل والخطوات الإيجابية ..يغمض عينيه الآن محاولا استرجاع لحظات الفرح علها تزيل ما بداخله ..استعاد رحلته إلى مصيف الفقراء كما يسمونه ولياليه الجميلة ..مداعبات الفتيات ومشاغبات الأولاد وانطلاق مشاعره الغريب عليه ..ابتسم حين خطرت له قبلة البنت التي تعرف عليها قبل السفر بيوم واحد ..لكنه عاد واكتشف أن العناوين وأرقام التليفونات التي أخذها ليس لها داعي ..تجيئه صورة مديره في العمل الذي قضي فيه عده اشهر لم يحتمله فيها .. وعاودته الابتسامة حين وجد أن مديره لم يكن سيئا لهذه الدرجة كما لم يكن هو ملاكا لهذه الدرجة ..ضحك أكثر حين تذكر منظره وهو يسقط من الأوتوبيس الذي خدعه وانطلق بعدما ظن انه توقف لينزل .. وبدلا من ذلك هوي ليبقي في سريره عدة أيام لا يذكر عددها وإنما يذكر قسوة ألم ظهره ..ربما يضحك الآن لأنه تخيل شخصا آخر ذلك الذي ينزل بكل ثقة ورأسه المرفوعة لأعلي وصدره الرياضي وهندامه الأنيق يومها ..
كل ذلك رآه مطروحا علي إسفلت الطريق بين السيارات المسرعة ..وحين سقط وقام لم يهتم أحد بأن يساعده علي الوقوف ..تماما كما لم يهتم سائق الأتوبيس بالتوقف ليري ذلك الذي سقط ..انتهي الشريط فنهض يبحث عن غيره ثم ترك البحث حين وجد بين الأشياء رسالتها الأخيرة ..يقراها بتمهل ويجد لأول مرة أن مبرراتها قوية نوعا ما .. وأنها ليست ملزمة بما يراه هو عن طبيعة علاقتهما ..لم يغضب منها هذه المرة ولم يلعن زمنه القاسي ..ولم يحاول ككل مرة أن يخرج صورتها ليصب لعناته علي عينيها الخائنتين ..يجدها فرصة ليكمل بحثه في أوراقه المهملة ..وجد صورا قديمة وأوراقا صفراء ورسائل لم يرد عليها ..ووجد أيضا رسالة صديقه التي يعتذر فيها عن عدم إرساله خطابات في القادمة مدعيا عدم استقراره ..يهز رأسه ويندم علي انه سأله أن يبحث له عن عمل البلد التي سافر إليها ..يقلب في الكتب المكومة علي منضدته ..باحثا عن بعض القصائد التي يحبها عله يهدأ فلم يقدر علي القراءة فالقي بالكتب ليسكنها التراب مرة أخرى ..ها هو اليوم الذي حاول أن ينبه من حوله باقترابه يمر دون أن يسأل عنه أحدهم ..
في البداية ظن أنهم يعدون له مفاجأة ما ..أو علي الأقل سيهاتفونه معتذرين عن عدم حضورهم ..وسيداعبونه عن فرار السنوات من بين يديه ..لكنهم لم يفعلوا شيئا من ذلك ..لما وقعت عيناه علي شهادات التقدير التي تحتل جزءا من حائط غرفته يتعجب لأنه لم يحرقها ..لم تعد تهمه في شيء فلم يعد يكتب ولم يعد هناك من يريد سماع ما يكتبه ..حتى خدعته القديمة بأن يرسل بإسم فتاته للمجلات ثم يخبر المحرر بعد النشر بالحقيقة لم تعد تجدي ..يكره ذلك الحزن الذي يعتصر قلبه ..ويحس بسخونة أغسطس تجتاحه فجأة .. يزيد من سرعة المروحة فتزيد من الفتور الذي يسكنه ..
ذلك العام القادم لا يضمن استكماله بحياته هكذا .. ولا يستطيع أيضا أن يحلم بانقلاب ما أو تغيير مفاجئ ..يلتقط سماعة التليفون ..تدور ذاكرته علي الأرقام التي تسكنها يفكر في كل رقم ويستدعي صورة صاحبه أو صاحبته ..يجرب أحد الأرقام وبينما يجيئه الرد لا يجد لديه رغبة في الحديث فيضع السماعة دون أن يتكلم ..ينظر لساعة الحائط
ويغمض عينيه محاولا النوم .
أشرف نصر
No comments:
Post a Comment