-->
سدهارتا
رواية : هرمان هسه
علي كثرة ما نقرأ من نصوص لكن ثمة نصوص تسكننا ونعبر معها مرحله القراءة إلي مرحله تعشش فيها تلك النصوص داخلنا ونحس بأن مبدع النص يتحدث عنك أنت بالتحديد ثم نقرأها مرة أخري لتمنحنا أسرارا جديدة وآفاقا أرحب ..ساعتها نعرف أن عظمه تلك النصوص أنها لا تتحدث عن أبطالها فقط ولا تتلامس معك وحدك وإنما عنا جميعنا ..تتحدث عن ذلك الكائن الغامض والرائع ..عن الإنسان ..
وحينما نجد تواريخ كتابه تلك النصوص مرت عليها سنوات تغيرت فيها آلاف الأشياء وظل لهذه الروايات عبقها وسحرها المتزايد مع الزمن نجن بتلك النصوص ونرغب في أن نقرأ سطورها لكل من نعرفهم وأن ننقل لمن نحب تلك المعرفة ..وأن ننقل لهم ما ترسخ داخلنا من خبرة..والأكثر إلحاحا أن ننقل تلك الحالة الرائعة التي وضعنا فيها هذه الرواية أو تلك القصيدة ..
من تلك النصوص روايات هرمان هسه وهنا نتوقف مع سدهارتا التي ترجمها للعربية فؤاد كامل ترجمه راقيه تليق ببساطه وشموخ تلك الرواية التي يزيد عبقها مع مرور السنوات .
* عتبة النص :
تبدأ رواية سدهارتا بجمله هامه هي : في ظلال البيت
هنا نري عتبة نصيه تقدم شكل لبداية تقديم المكان المرتبط - كما سنري في أحداث الرواية- بالشخصية الرئيسية أو البطل ارتباطا وثيقا بذلك المكان سواء في ظلال البيت وأيضا بعد الابتعاد عنه
( في ظلال البيت ) تصور بداية لشكل علاقة البطل بالمكان فهو البيت مكان الأمان والحماية الذي يظلل علي ساكنة ومكان حميمي يتسم بالألفة مع صاحبه سدهارتا ( الذي يعيش في الهند )..
لكن للحقيقة وجوه عده ..فالبيت الذي يظلل ويحمي أيضا يحجب عن صاحبه العالم الواسع بكل خيره وشره وفرحه وألمه أي بكل ما في العالم من خبرات وهو محور رحله سيد هارتا في الرواية أقصد العلاقة بالعالم
هذه العتبة النصية جاءت أهميتها من كونها نقطه البدء في تقديم البطل وملامح حياته الهادئة والمستقرة في كنف الأب وتعاليم رجال الدين ( البراهما ) وتقديم
القرابين وتأدية الطقوس التي تلقن لجيل بعد جيل ..ويمكن القول بأنها صورة
المتدين التقليدية القائمة علي التلقين والمعتمدة علي الحفظ أكثر من الاعتماد علي التعامل المباشر مع الحياة بكل خبراتها وبدلا من خوض رحله البحث ..وهو ما لا يطيقه سدهارتا حيث يقرر البحث عن الذات وعن المعرفة و عن اليقين
* مراحل الرحلة :
- اللقاء بالزهاد ( السامانا ) حيث تخلي هؤلاء عن متع الدنيا وملذاتها وهاموا علي وجوههم
( يتأملون ويصومون وينتظرون ) هذه العناصر الثلاثة هامه جدا في تشكيل ملامحه أي الصوم والانتظار والتأمل سنري أثرها فيما بعد
- لكن جذوه البحث عن السلام النفسي واليقين تظل مشتعلة لا تطفئها تلك التعاليم رغم أهميتها فهو يبحث عن الأعمق أي الحقيقة ويرفض القنوع بإتقان تعاليمهم لمجرد الوصول لما يمكن تسميته بالكرامات أو ما يسميه هو نفسه الألعاب كالمشي علي الماء أو تنويم أكبر السامانا الذي تلقي علي يده التعاليم
- فيلتقي بالجومانا ( بوذا ) الذي تنتشر أفكاره ويصير معظم الناس يشتاقون لسماع كلماته الساحرة وعندما يلتقي به سدهارتا يحس بأن سمعه بوذا التي سبقته لا تكفيه حقه فهو رجل وصل للدرجة التي يحلم بها كل الباحثين عن الحق والحقيقة
وأن روح بوذا تمتلئ بالكلمة المقدسة ( أوم ( OM
والتي هي ( أي تلك الكلمة روح الكلمات وعندما تسكن روح إنسان إنما تعني وصوله لبر اليقين )
- ما منع سدهارتا من إتباع بوذا مع اقتناعه الكامل بعظمته ـ وهو ما فعله صديق عمره جوفيندا ـ
هو أن سدهارتا وجد أنه علي كل إنسان أن يخوض رحلته الخاصة فتعاليم بوذا وكل بلاغته لن تكون بديلا.. ولن تكون سوي مكان مفترض بعيد مهما وٌصف لك لابد أن تراه
- تأتي المرحلة الأغنى في الرحلة في اللقاء بالغانية كماله حيث يلاقي وجوه أخري للحياة لم يكن يعرف عنها شيئا فيمر بحلاوة الحب ولوعته ومنها يتعرف علي التاجر كاما سوامي وملذات الدنيا حيث التجارة والمال والربح والخسارة ويتعامل بمنطق الزاهد الذي لا تعنيه تلك الملذات ثم مع مرور الزمن ينجرف شيئا فشيئا ويبدأ في الاستمتاع ويجرب الخمر والقمار ويحس بفقدان خصاله الهامة
الصوم والانتظار والتأمل
- - وإذا كانت المدينة هي المرحلة الأغنى في الرحلة فإن النهر ولقاءه بالملاح هي المرحلة الأعمق حيث يجد أخيرا أن البحث عن الحكمة ليست بالعزلة عن الناس ولا بالتعاليم وليست حكرا علي المميزين من البشر كالكهنة ولا الزهاد ولا المعُلمين المميزين عن عامه الناس
ولكن الملاح البسيط العادي وعن طريق الإنصات للنهر يصل لأعلي مراتب الحكمة والسلام واليقين .
نبدأ الآن في تطبيق العلامات ودلالاتها في هذا العمل البديع :
* الأماكن :
أ- الفردي والجمعي :
نجد بيت سدهارتا هو المكان الفردي ..
وهنا مارس سدهارتا علاقة حميمة مع المكان لكن يصبح بالنسبة له الجنة / السجن أي مع كل ألفه المكان تصبح عائقا عن الخارج / الحرية ..يخضع هنا سدهارتا لقانونه فهو السيد لعبيده والمالك للمكان وصاحب الثياب الفاخرة والمنعم بالحياة المرفهة و حتى التدين عنصر تميز ومحل ثناء ممن حوله .
أما المكان الجمعي يتمثل في المدينة حيث يخضع لقوانين المجتمع من عمل وبحث عن المال وصور إنفاقه وغيرها من متطلبات الحياة مما استتبع ذلك الخضوع والاندماج في قوانين الجماعة وخاصة في تجربه التجارة والحب وعاطفة الأبوة
ب- الإنساني والمقدس :
علي مدار الرواية تظل المقابلة بينهما فنري أماكن العبادة مع الزهاد في الغابة ومع بوذا ونلاحظ سكون في أماكن العبادة ونجد حرص علي التفكير والتأمل ويصل السكون في أماكن العبادة لدرجه الركود في مقابل حيوية وحياة الأماكن الإنسانية والحركة الدائمة القلقة كثيرا لكن الممتلئة بالأحداث .
ج- المكان والسلطة :
عندي : وتتمثل بالطبع في البيت
وعند الآخرين : تظهر عندما ذهب للزهاد
أماكن عامه : وهي المدينة حيث الخضوع لشروطها
مكان لا متناهي : وهو النهر
الجميل في النهر ويميزه حتى عن الغابة انه مكان يعطي لسيد هارتا الاتساع اللانهائي خاصة عندما يعلمه الملاح أهميه الإنصات للنهر ليكتشف بعد تعلم هذه الفضيلة أن للنهر مساحه معنوية أكبر من المادية فهو يحمل في طيات موجه كل خبرات البشر العابرين علي صفحته وكل أسرار الكون الواسع
( نلاحظ أيضا أن النهر يجمع بين المكان الفردي والجمعي حيث ينفصل الملاح وبعده سدهارتا عن كل العالم وصخبه ليستمع للنهر وليكتشف أعماق نفسه وهنا انفصال لا عزله كما في الغابة حيث ذلك الانفصال يتم عن حرية ومع قدرة الاندماج مع العابرين بكل صخب حياتهم لا عن تعسف وعزله تدل عن الحرمان من الحياة وعجز عن التواصل معها كما حدث لسدهارتا في الغابة )
( نلاحظ أيضا انه أي النهر يجمع بين الإنساني حيث الناس ومشاكلهم وبين المقدس حيث يتحول مع فهم سدهارتا لأهمية النهر لمكان مقدس يمارس فيه عبادته ويصل إلي ما يبحث عنه وهو وحده الوجود )
وتميز النهر أيضا بالحرية وهي محور العنصر التالي في عناصر المكان .
د- المكان والحرية :
يمارس سدهارتا حرية متوهمة في البيت خاصة عند اكتشافه عبوديته لجهله بحقيقة ذاته وبأسر الجهل بحقائق الوجود.
مع الزهاد يجد نفسه أسير أغلال جديدة وهي وسائل الزهد التي تحولت عند الزهاد إلي غاية في حد ذاتها
ومع بوذا لا يجد حريته في مجرد التبعية حتى لرجل عظيم مثل بوذا
وفي المدينة يجد نفسه رويدا رويدا أسيرا للحب والتجارة ولملذات الحياة التي خبرها عن قرب
( هنا نلاحظ أن زهده عن هذه الملذات يختلف عن زهد البداية فهنا زهد من خبر الشيء وأحس بحلاوته ومرارته )
ويأتي النهر ليمارس حريته الحقيقية بل ويستطيع أن يتغلب علي عاطفة الأبوة تاركا ابنه يرحل مبتعدا عن حياته لأنه تعلم أن لكل إنسان رحلته التي يجب أن يخوضها دون وصاية من أحد حتى من سيد هارتا الرجل الذي بلغ هدفه ( سدهارتا كلمه سنسكريتيه معناها الذي بلغ هدفه )
- هذه الأماكن الثلاثة : المدينة والغابة والنهر حقائق سيموطيقيه مرت الرواية بها محلله الفروق بينها وعلاقة البطل بها وتأثره بها وتأثيره فيها .
* الزمن :
نجد هنا منظومة صوفية تعلي من الحاضر ولا تعني بمجد الماضي أو تطرح أهميه للمستقبل فالحاضر هو وقت التجربة التي يمر بها سيد هارتا والحاضر يسيطر علي الرواية شارحا ومحللا التجربة والخبرة الروحية والصوفية التي يمر بها البطل .
وتعلي تلك المنظومة الصوفية من شأن المتع المعنوية كالسلام النفسي والسعادة ولذة البحث ومتعه الوصول للهدف عن أي متع دنيوية كالمال والحب وكل ملذات الحياة .
وهنا نجد الزمن النفسي للشخصية هو الغالب عن الزمن الفيزيقي فللحظه مساحه وأثر في الشخصية أكثر أحيانا من سنوات طويلة فكل لحظه يشعر فيها سيد هارتا بأرق السؤال وحتمية البحث هي التي يسهب فيها الكاتب عن سنوات عاديه مثل فتره المدينة والتجارة .
* ديناميكية الرواية :
لا تتوقف الحركة داخل النص فلا ثبات بل حركه وديمومة بحث والصراع هنا داخلي في ذات البطل ومع نفسه فهو في صراع داخلي لا يهدأ ولا يفتر لذلك اعتمد الكاتب علي الجمل الفعلية في الزمن المضارع معظم الوقت .
* الراوي :
وهنا راوي من الخارج محايد ينظر من اعلي وهو راوي عليم يطرح الرواية بضمير الغائب يحتفظ بمساحه عن البطل ليقدم تجربه سيد هارتا ..واري هنا براعة من الكاتب في اختيار هذه الزاوية للسرد وكأنه يقدم خبرة حدثت لشخص ما ثم نكتشف أن الهدف هو أن ينتبه القاريء أن كل إنسان هو سيد هارتا الذي يجب أن يقوم برحلته كما قام بها البطل ..
وليترك للقاريء الحكم بموضوعيه كانت ستغيب لو كان الراوي من الداخل بضمير المتكلم ومتورط مع البطل .
أخيرا:
الرواية بتلك البساطة مع عمقها ستدفعك لقرأتها عده مرات فعندما قرأتها للمرة الأولي فتحت الصفحة الأولي مرة أخري لأبدأ من جديد محاولا الوصول لمعاني جديدة ولم تخيب الرواية ظني فكانت الرواية كالنهر الذي وقف عنده سدهارتا كلما أتأمل أكتشف المزيد ..
ووجدتها تتماس مع روايات أخري تطرح فكرة الخلاص وفكرة الطريق
فلكل منا طريقه الذي يجب يسيره وحده لكي يصل لما يبحث عنه في رحلته .
أشرف نصر
No comments:
Post a Comment