الطوق والاسورة
النار هي الاصل !
أشرف نصر
لم يذهب خيري بشارة إلى قرية الكرنك بالأقصر، حاملا الكاميرا ليصور، بل ذهب فاتحا نوافذ القلب أولا ليحس قبل أن" يعبر " ومرتشفا كالنحل بعقله وعيونه "ليجسد" مستخلصا عصارة القرية،وناسها، فى تجربة كهذه يشعرك المخرج بحرارة الشمس وصهد القيالة وراحة الطوب اللبن فى البيوت، غبار الشارع ووحشته وحنان نسيم الأمسيات العابر على شخوص مهما قست الحياة عليهم ، يريدون الحق الأول بين كل الحقوق، حق الحياة،
،،فى البدء كانت الكلمة ، والشرارة من نص أدبي كتبه البديع يحيى الطاهر عبد الله، "الطاهر "يحيى "هذا هب على العالم كعاصفة حلوة حاملا شفاهية الأهل فى مواجهة تقاليد الكتابية المنقولة من الغرب فى فن السرد، قصة ورواية ، حاملا تراثا لا ينضب من الحكايات جمعه من تراث الأجداد العرب فى ألف ليلة وليلة وغيرها ممزوجا بحكايات الجدات من الصعيد، ورفاق الدرب ممن تصعلك معهم فى دروب العاصمة،،جمع كل هذا وغزله وحكاه شفاهه لمعاصريه على المقاهي وكتابة لنا تحمل عنفوان وتدفق تلك الشفاهية، فأجمل لحظات القراءة لنصوصه تأتي ونحن نتلوها بصوت مرتفع ! كتب المخرج النص السينمائي بمشاركة يحيى عزمي، وعبد الرحمن الأبنودي ، والأول أستاذ أكاديمي كبير بأكاديمية الفنون استفاد منه خاصة طلاب السيناريو والإخراج، والثاني أحد أساتذة الشعر العامي وايضا رفيق درب ليحيى الطاهر فى رحلته السريعة زمنيا /الطويلة أثرا وتأثيرا. ،جاءت الكتابة من الأربعة الأديب ، المخرج، السيناريست، والشاعر عن شخوص قرية الكرنك وجسدها : شريهان وفردوس عبد الحميد وعزت العلايلي وأحمد عبد العزيز وعبد الله محمود ومحمد منير ،
لن نكون أمام علاقة تعلي من عنصر الزمن وتجعله حاكما للمكان كالمومياء مثلا، بل أمام علاقة المكان بالشخصيات ، وأثر المكان الثقيل الوطء على تلك الشخصيات حتى أن الزمن يبهت ولا يصبح إلا أرقاما تتوالى ، والمأساة مستمرة ولو فى تكرار لشخوص آخرين ، يحفرون جدراية من لحم ودم لبشر نسيتهم الدولة والعالم وتحت رحي الظروف يكابدون رعب احتمال نسيان السماء لهم ولمأساتهم..هنا حزينة وبخيت البشاري ونسلهم وجيرانهم البؤساء مورس عليهم قهر العادات والقيود المجتمعية وفى سلسة القهر المستمر يمارسونه حتى على أنفسهم، كل ذلك بفعل قوى وقيود غير مرئية كأنه صراع الانسان ضد القدر فى تراجيديا يونانية نبيلة ومؤلمة، اخطر واقسى انواع الصراع هو ما يكون ضد قوى مجردة وأفكار وعادات وتقاليد تكبل الجسد وتقتل الروح الراغبة فى الحرية،
، يبدأ بشارة رحلته/رحلتنا مع كادر ثابت لطيور على سطح النيل ومع موسيقى بالطابع الجنائزي قدمها انتصار عبد الفتاح، ندخل لغناء أو دندنة الجميلة فهيمة بنت حزينة وبخيت البشاري ، فهيمة شابة ، واقعة بين أم هي كتلة من الحزن كإسمها، وأب كتلة من العجز واللسان اللاذع، فى الفيلم ستجد الذكور تنويعات من العجز ، من بخيت البشاري العاجز بالشلل لزوج فهيمة الحداد العاجز جنسيا، حتى البطل والمخلص كما ظنوا ونعنى مصطفى عاجز بالفقر،، وفى ألعاب التعويض النفسي يمارس الأب بخيت السخرية وابنه مصطفى بال"الفشر/المبالغات"عن بطولاته فى الغربة ، واعنفهم الحداد يضرب فهيمة ، يطلقها، ثم يحرق زوجته الجديدة، فى مقابل العنف الذكوري سنجد الأناث يحاولن الحياة والبحث عن الخصوبة، فلسن جميعا كحزينة الراضية بألألم، الكئيبة التي لا تجيد الفرح،،ففهيمة تحب زوجها الحداد، وحاولت تضميد جراحه بالحب ، وارتضت بالذهاب للمعبد "للتلقيح"من غيره، ارضاء لمجتمعها، ورغم كل محاولاتها طلقت وظلمت، وماتت بحمى النفاس وقد وقع الفقر والجهل وثيقة الموت بيد المعالج الجاهل،،
واذا كان رجال الفيلم من حجارة كحجارة حضارة غربت ، وتقاليد قبلية عربية تكره الحياة وتبحث عن العنف وتبرر القتل تحت مسمى الشرف لكن خصوبة النساء كخصوبة الأرض فتنجب كما يهلل الأطفال فى دروب القرية:فهيمة بنت حزينة جابت بنت، اسمتها -فى مفارقة - فرحة أو فرحانة التى تكمل الدائرة لنقطة البداية من جديد، وتدفع الثمن حياتها على يد ذكر آخر يطمع فيه كزوجة له ، وحين يفقدها يتعلل بالشرف ليقتلها، متباهيا كفارس، حقق ما تمليه "الرجولة" كل تلك المفاهيم "النسوية/الأنثوية "تأتي هنا كهمس لا كصراخ، كوجع لا كتناطح، تتسلل دائما بين الكادرات والمشاهد والأحداث،، لأن الأساس بدأ من فكرة أنهم بشر لهم حياتهم وأوجاعهم، وليسوا بضاعة أو سلعة أو فئران تجارب لآخر يتعالى عليهم بمفاهيم غربية ،،بل يتوجع الفيلم معهم بشكل انساني وكلمات وأفكار انسانية يطرحها محمد أفندي المتعلم الوحيد، بشكل حديث بعيدا عن تعليم الكتاتيب وخلافه،
ففى واحد من أجمل المشاهد -والحقيقة أن اختيار الأجمل أمر صعب فى سبيكة الجمال هنا- للحداد "أحمد عبد العزيز" العرق ينضح على جسده، وزوجته فهيمة تحاوره ربما النار هي سر العجز فيدافع عن نفسه ، لولا النار ما كان الانسان ، فتحاول مرة اخيرة افهامه فلولا النار ما كان ابليس وليس الانسان، ويختتم المشهد بالحداد يطلق الرصاص على الكلب..باحثة عن الحب تواجه باحث عن قوة، وهو عنين يعوض فعلته بعنف وقسوة على كائن اضعف، والحقيقة المؤلمة للذكورة والأنوثة معا وبفعل القيود والأساور التي تكبل الجميع أن النار ظلت الأصل فعلا، فقد انهى الحداد بها حياته وزوجته الجديدة رغم رضاء المحتمع عن الزيجة، لكن وحده يعلم بخيانتها له فى البر الغربي، أو يظن أنها لابد فاعلة ذلك طالما لم يقهرها الحب وخيبة الأمل في عجزه، وبقائها على حبها للحياة !
المخرج هنا بمنطق البشر لا يبحث عن شكل "استشراقي"فى الأفراح أو زيارة الأضرحة أو غيره من طقوس شعبية فهو روح أبطاله،، لا يشغله "ابهار"عين متلقيه بل مخاطبة عقله وروحه بما يشغل أبطاله فى طقوسهم هذه،، فى الفرح يدلنا بإشارة صغيرة لهزة رأس محمد أفندى المتأسية على أحوال البلد،،ففرح فهيمة لم يكن لوجه الله ، بل ضمن صفقة بين التاجر والحاكم هنا وهو العمدة بمباركة رجل الدين الشيخ هارون لافتتاح طاحونة بالبلد،،المثلث المشترك والرشوة المدفوعة وفرح بنت حزينة كلها خطوط تتلاقى فى المشهد و"كادر"محمد أفندي المتألم لبلده وأحوالها،،نفس الطاحونة التي ستشهد مأساة فرحة فيما بعد. تماما كما هي عودة "مغاوير"حرب 48 ومحمد أفندى يلقى الشعر الحماسي الدعائي ، ولا أحد يهتم، بل هناك من فقدت ابنها -عبد الحكم رفيق مصطفى فى الغربة -ثم بعد عودة مصطفى نفسه سنجد أن بطولاته أقرب لأفعال اللصوص، لكن الناس هي التي تقرر فيما بعد من تصنفه بطلا مقاوما للانجليز والاستعمار، ومن تصنفه لصا، كحال كتابة التاريخ، حسب زاوية الرؤية والمصالح!
حالة التركيز الخالصة التى عاشها ونقلها لنا المخرج، تجعل هزة رأس محمد أفندي مجرد واحدة من العديد من التفاصيل البصرية التي تغني عن الحوار وتصرح بالمشاعر وتخبرنا عما بين السطور، فقبلها هزة رأس بأسى أيضا يفعلها بخيت البشاري، حين يداعب ابنته أن تعزل الدجاجة المريضة عن غيرها، وحين تستعيذ الابنة من الشر عنه، يأسى هو بحق، فهو أعلم الناس بأن الشر قد وقع،، وفى فلاش باك يتكرر نرى فهيمة طفلة وشقيقها مصطفى الطفل يدخن مقلدا الرجال ، فكأننا نلمح مع خصوصية علاقتهما ،،بدايات مصائر ودوائر أدوارهم الحياتية،وأبدع تلك التفاصيل هو تفصيلة علامة الأنوثة تظهر كبقعة على ثوب فرحة وهي تجري بطفولة ولأن الشاب المراهق رآها يساعدها على الوقوف وهي تداري ثوبها، لكن فات الأوان فقد حق عليهما قانون الطبيعة فى العلاقة، والتي لم نعد حتى بحاجة لرؤيتها بعد تلك الإشارة ، حتى الأشواق المكبوتة فى صدور شخوصنا نحسها ببلاغة بصرية وبأقل الجمل والمشاهد،،مثل فهيمة التي تكتحل قبل ذهابها لتسلم عبد الحكم صديق شقيقها زيارة لشقيقها، يسلم عليها بحرارة الشوق المتبادل،
اختتم ، بمشهد جاء فى منتصف الفيلم ، حكاية ليست بالعابرة أبدا، يبدأ المشهد ببروفيل لوجه فهيمة بعيينها الجميلتين مكحولتين، كأننا أمام وجه نفرتيتي، ثم نجدها كشهرزاد تحكي للحداد حكاية من الحكايات، وفى الحكاية بائع كلام، كل كلمة تنجي بطل الحكاية من الموت، الكلمات كانت الأولى:حبيبك اللي تحبه ولو كان عبد نوبي،،والثانية :ساعة الحظ متتعوضش،، والثالثة:من آمنك لم تخونه ولو كنت خاين..، أمثال من قلب التراث الشعبي، لو بحثت في حكاية الفيلم وفتحت العلب الصغيرة المتتالية داخل العلبة الأكبر ستجدها مفاتيح حياة شخوص بيت البشاري الذي دخلناه فى الفيلم، وخرجنا منه نحلم بنفس كادر البداية والنهاية ، طيور تحلق بعيدا عن تلك القيود ، والنار المحرقة !
***
نشر بمجلة أبيض وأسود
العدد 38 فبراير 2015
No comments:
Post a Comment