مولد يا دنيا
نظرة وردية ومشهد أيقوني!
أشرف نصر
تأليف: يوسف السباعي
إخراج: حسين كمال
"أهي دي الدنيا" جملة مكتوبة على
الشاشة بدلا من كلمة النهاية،أنهي المخرج بها فيلمه كخلاصة أو دعوة لحب الحياة،الجملة
–بسبب جمال العامية المصرية ومراوغتها- يمكن تفسيرها على أنها:هذه هي الدنيا،أو:هكذا
ينبغي أن تكون الدنيا.فرح وغناء وكوميديا ومشاغبة الأحزان،فهي نظرة وردية تحث على
التفاؤل والفرح،فكيف قدم أو وصل لهذه الجملة؟
إذا عدنا لتتر البداية سنجد الإنتاج لشركة
معروفة للانتاج الغنائي والسينمائي– للترويج لمطربي الشركة- تقدم المطربة ذات الصوت
العذب:عفاف راضي للمرة الأولى،لكنها "بعدها" لم تصبح نجمة سينمائية،فقدراتها
التمثيلية ليست كبيرة،وحتى فى الغناء ابتعدت أكثر مما غنت،وبعيدا عن البحث عما حدث
لها – رغم امكانيات صوتها الرائعة- لكن يبدو أنهم قصدوا أفضل تقديم لمطربة،فقدموا
لنا صنيعا لم يكن فى الحسبان، فيظل "مولد يا دنيا" واحدا من الأفلام
المبهجة التي تحارب كآبة الحياة،قدموا لنا فيلما مسليا بسيطا به الغناء والكوميديا
وقادهم مخرج يعرف كيف يلعب عندما يعمل،يلعب ويتسلى وهو يعمل دون أن يكون اللعب
جريمة فى حق مهنته بل كجانب من جوانب السينما،ونقصد المتعة،ساعده فى ذلك نخبة
الشعراء والملحنين المبدعين:مرسي جميل عزيز وكمال الطويل وبليغ حمدي ومنير مراد
وعبد الرحيم منصور وغيرهم
سيناريو الفيلم لم يقدم جديدا فى تاريخ
الأفلام الغنائية المصرية،حدوتة بسيطة،وشخصيات نمطية مسطحة،إما طيبة أو شريرة والبناء
جاء كحكايات الجدات لأحفادهن،حكاية مسلية، فيها الطيبون والأشرار،وصعوبات تواجه
أبطالنا، لكنها مجرد عقبات صغيرة تليق بحكاية للأطفال، فحتى الشر فيها خفيف الظل،
لنصل لحل سعيد يرضي الطفل ويجعله ينام يحلم أحلاما سعيدة،
فكرة الفيلم: مجموعة من النشالين والنصابين
يستغلهم زعيم عصابة،ويراهم مخرج قادم للبلدة من العاصمة فيحولهم لفرقة رقص
استعراضي ناجحة.
أما المقولة التي ألح عليها الكاتب–وهو أحد
رموز الثقافة الرسمية- ثنائية مزعومة يقدم فيها نظرة دونية للفن الشعبي ويطرح الفن
المؤسسي كفن أرقى وأفضل!،حتى أنه يقدم فى حل تصالحي اعتراف المحافظة بهم وتقديمها
لمسرحها لهم لتقديم حفلهم الأخير!
هذا الحل التلفيقي يمر مرور الكرام معتمدا
على رحابة صدر المشاهد فى مشاهدة الفيلم الراغب فى التسلية،فنجد زعيم العصابة
"يحن قلبه" وهو يرى الأولاد على المسرح فيدخل للغناء معهم،وقبلها مساعده
يستيقظ ضميره عند محاولة قتل الحصان "شنكل" الذي يعتمد عليه أعضاء
الفرقة،
ولكن خط الحصان "شنكل" من أفضل
ملامح السيناريو- الملئ بالمشاكل بداية من الفكرة حتى النهاية مرورا بالحبكة
والشخصيات وصولا للنهاية المتصالحة- فعلاقة "ريشه" عربجي الحنطور بحصانه
من المرات القليلة التي قدمت فيها السينما المصرية علاقة إنسان بحيوان بهذا الشكل
الجميل،حيث يحدثه ريشه ويستشيره بل ويبيعه بناءا على رأي الحصان لدفع كفالة شباب
الفرقة المحبوسين،حتى يعود "شنكل" فى زفة تليق ببطل بعد أن استردوه،
وعلى سبيل المثال من مشاكل الفيلم –كسيناريو-
أن المفترض أنه قدم فى النصف الأول من الفيلم علاقة حب بين إسماعيل وزبدة زميلته
فى النشل،وعند حضور المخرج عادل تتحول مشاعرها تجاهه،وتظل النصف الثاني من الفيلم
تحاول أن تحوز حبه حتى يعترف لها فى الإستعراض الأخير،وحين عرض عليها زميلها
إبراهيم الزواج ترفضه لأن مشاعرها مع عادل فيخون إبراهيم الفرقة بسبب الرفض،تحول
مشاعر زبدة ونسيانها لإسماعيل ورفضها لإبراهيم، كل هذا منطقي،االعجيب حقا اختفاء إسماعيل من الصورة بمجرد ظهور عادل،هل
نسى حبه؟ ألم يكن –دراميا- المفترض أن يعرض هو الزواج على زبدة؟ أو حتى نراه فى
مشهد واحد يتحدث مع زبدة عن مشاعرها التي تغيرت؟ على العكس نراه يمثل ويرقص فى
البروفات،ولا يجمعه مشهد واحد أو وحوار منفرد بمن أحبها!!! ألم نقل أن رحابة صدر
المشاهد بلا حدود.
رغم أن الاستعراضات فى الفيلم تقدم دون ثراء
كبير بالأزياء والاكسسوار والديكور،لكن مصدر الغنى جاء من الأبطال بخفة ظلهم وبحركات
بسيطة استعراضيا تعني بتقديم حالة البهجة أكثر من العناية بتقديم استعراضات ضخمة.
لكن المشهد الفارق والذي يمكن أن ننسى الفيلم
دون أن ننساه أبدا هو تقديم شخصية ريشه صاحب الحنطور الذي قام بدوره عبد المنعم
مدبولي، يجلس ريشه وهو يشرب النبيذ الرخيص،يسكر ويغني ويرقص وحده،الأغنية التي
يعرفها الناس ب:طيب يا صبر طيب،
وهي
التي قدمها مبدعوها: مرسي جميل عزيز وكمال الطويل ومدبولي وحسين كمال بإسم:زمان
وكان ياما كان، ونضع حسين كمال بين صناع الأغنية لأن الأغنية حين نسمعها يصعب عدم
تذكر مدبولي وهو يرقص فى الأسطبل ويجلس على الحنطور ويضرب بالكرباج فى الهواء
وبحشرجة متعمدة فى الصوت كعجوز ثقل لسانه من أثر ثمالة الخمر والحزن،ونرى القنديل
المعلق يهتز والكاميرا تتحرك حوله فى حرية وتصوره من زوايا مختلفة، وهو يشكو الزمان
وغدره حين بارت مهنة عربجي الحنطور،
فالمشهد: تقديم شخصية، ذورة أزمة الشخصية،أغنية
فلسفية عن الزمان وتحولاته،والمفارقة أن الأغنية والمشهد يعدان وجهة النظر
المقابلة للفيلم ككل ومقولة المخرج الأخيرة،وأخيرا وليس آخرا تصويرا دراميا كأنه
فيديو كليب بديع لأغنية قبل ظهور الفيديو الكليب وقبل انتشاره فى مصر،فالفيلم
إنتاج 1976،ولاحظ أن كل هذا ونحن مع مخرج أمامه ممثل وحيد فى مكان واحد محدود،لكن
الحيوية فى الإخراج والأداء التمثيلي والغنائي لمدبولي فى المشهد يجعل المشهد
أيقونة فى ذاكرة المشاهد.
ورغم أي انتقاد فى سياق التحليل لكن بهجة
الفيلم يليق بها أن نختتم وندندن مع "ريشه" فى أغنيته البديعة:
يرحم
زمان وليالي زمان
والناس يا متهنى يا فرحان
الدنيا كانت وردة وشمعة
ولسه ما اخترعوش أحزان!.
***
نُشر بمجلة أبيض وأسود
العدد 32 -أغسطس 2014
No comments:
Post a Comment